ما بين مايو/ أيار 2007 ومارس/ آذار 2018 جرت مياه كثيرة في مصر، وكان من بين هذه المياه ما حدث لبنك القاهرة، ثالث أكبر البنوك العاملة في البلاد، إذ أعادت الحكومة قبل أيام طرحه للبيع على المستثمرين العرب والأجانب، لتعيد بذلك خطوة فشلت في تمريرها قبل نحو 11 عاماً، لنرصد قصة صفقة بنك القاهرة بين تاريخين، لعلنا نتذكّر ما جرى في الماضي ولماذا لم يتكرّر حالياً.
مصر في 2007
في مايو/ أيار 2007 تحوّلت مصر فجأة إلى ساحة شديدة السخونة، ليس بسبب حرارة المناخ، فالصيف لم يكن قد بدأ بعد، بل بسبب إعلان الحكومة المفاجئ، وبلا مقدمات، عن بيع بنك القاهرة المملوك للدولة، وامتدت السخونة إلى أروقة الحكومة ومقر مجلس الوزراء والبنك المركزي ووزارات المجموعة الاقتصادية والقطاع المصرفي، بل وامتدت إلى جميع وسائل الإعلام والفضائيات المصرية والعربية التي راح معظمها يهاجم القرار بدون تقديم تبرير واضح لهذا الموقف الحاد.
وراح رجل الشارع يتهامس حول صفقة البيع المثيرة، ويؤكد وجود "مشترٍ جاهز" للبنك على علاقة بأحد صناع القرار السياسي والاقتصادي في البلاد، وأن عمولة السمسرة في الصفقة ستكون كبيرة لهذا المسؤول، وأنه سيتم تحويل العمولة مباشرة من الخارج إلى أحد البنوك السويسرية بدون المرور على مصر.
فجأة، وقبل 11 عاماً، كان الجميع يتحدث عن خطورة بيع بنك القاهرة، ثالث أكبر بنك في البلاد بعد البنكين الأهلي المصري ومصر، كان الحادث يستحق كل هذا الاهتمام والجدل والرفض شبه الجماعي للصفقة، فبنك القاهرة له دلالة تاريخية، فهو أول بنك مصري تأسس عقب ثورة 23 يوليو 1952.
كما أن بنك القاهرة يموّل أنشطة اقتصادية مهمة لا تقدر عليها البنوك الخاصة والأجنبية، بل إن هذه البنوك غير راغبة فيها من الأصل، لأنها لا تحقّق أرباحاً سريعة وكبيرة، مثل أنشطة الصناعة والزراعة والبناء والتشييد والبنية التحتية من طرق وكباري ومحطات إنتاج كهرباء وغيرها.
والأهم من ذلك ثقة المصريين الشديدة بهذا البنك الحكومي الذي يضمن لهم مدخراتهم و"تحويشة العمر"، كما أن فروعه منتشرة في كل المحافظات والمدن والقرى، وله قاعدة عملاء واسعة بين العمال والمزارعين وموظفي الدولة.
كذلك استدعت وسائل الإعلام حينها التجارب الفاشلة لبرنامج الخصخصة المصري، وكيف أنه دمّر شركات القطاع العام، وضيّع المليارات على خزانة الدولة، وفرّط في صروح ظلت علامات في الاقتصاد المصري، مثل شركات الحديد والأسمنت والأسمدة والبترول والمقاولات وغيرها، وكيف أن الخصخصة دمّرت الأسر المصرية، ورفعت مستوى البطالة في المجتمع عبر برنامج المعاش المبكر للموظفين.
في مجلس الوزراء، كان المشهد أكثر سخونة، وهو كالآتي: المشير محمد حسين طنطاوي وزير الدفاع في ذلك الوقت ينهر أحمد نظيف رئيس الوزراء بسبب قرار حكومته المفاجئ بيع بنك وطني بهذه الأهمية بدون عرض الأمر على الحكومة والتشاور معها، بل ويوبخ طنطاوي نظيف في الجلسة العاصفة على التفريط في أصول البلد المهمة، قائلاً له "أنتو هتبيعو البلد"، حسبما نقل لي مسؤول بارز في ذلك الوقت.
وفي مقر بنك القاهرة انتشرت حالة من الترقّب الشديد بين موظفيه وعملائه، خاصة مع الكشف، لأول مرة، عن المركز المالي الحقيقي والكارثي للبنك، وكيف ألحق عدد محدود من كبار رجال الأعمال المتعثرين، أمثال مجدي يعقوب ورامي لكح ومصطفى البليدي وإبراهيم كامل وغيرهم الأذى الشديد به، خاصة أن عدداً من هؤلاء فر إلى الخارج، تاركين خلفهم عشرات المليارات من الديون المتعثرة والمشكوك في تحصيلها.
في حزب الوفد الليبرالي الذي يتبنّى سياسة الاقتصاد الحر كانت صحيفته تشنّ حملة شعواء على قرار بيع بنك القاهرة وتهاجم بشدة سياسات حكومة أحمد نظيف الاقتصادية، وتنتقد بضراوة شديدة سياسة التفريط في أصول الدولة وبيع البنوك الوطنية بثمن بخس للأجانب، وتهديد أموال المودعين.
وفي مقار الأحزاب اليسارية، مثل حزب التجمع والحزب الناصري، أقيمت الندوات والمؤتمرات والفعاليات الرافضة للتفريط في أول بنك مصري أسسه الضباط الأحرار بعد ثورة 25 يوليو لدعم الاقتصاد المصري، عقب انسحاب عدد من البنوك الأجنبية من مصر في أعقاب قيام الثورة.
وفي البنوك والأجهزة الرقابية كانت الاجتماعات متواصلة لإعداد كراسة الشروط المتعلقة بصفقة بيع بنك القاهرة، والتجهيز لدعوة المشترين إلى التقدم بعروض مالية وفنية، وتحديد مواصفات كراسة الشروط.
وفي الغرف المغلقة كان الحديث يجرى حول تجهيز أحد البنوك الإماراتية للفوز بصفقة شراء بنك القاهرة، بعد أن فشل في السابق في الاستحواذ على بنك الإسكندرية الذي فاز به أحد البنوك الإيطالية، عقب تقديم عرض مغرٍ بلغ وقتها 1.6 مليار دولار.
ببساطة، كان قرار بيع بنك القاهرة غريباً في ذلك الوقت، والحكومة لم تستطع الدفاع عن قرارها أو تبرره أو الإعلان عن مصير حصيلة البيع، ومع الضغوط التي مارسها المشير طنطاوي والرأي العام ووسائل الإعلام والأحزاب على الحكومة تراجعت الحكومة في قرارها، ساعتها اخترعت حجة عدم تلقيها سعراً مناسباً لإلغاء قرار البيع.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2008 أعلن رئيس الوزراء أحمد نظيف التراجع عن قرار الحكومة بيع بنك القاهرة، لأن الظروف غير ملائمة، بعد ظهور الأزمة المالية العالمية في عام 2008، إضافة إلى كون قيمة العروض جاءت أقل مما ترى.
مصر في مارس 2018
في مارس/ آذار 2018 قررت الحكومة إعادة طرح بنك القاهرة للبيع، ومع الإعلان عن الصفقة بات كل شيء جامداً في مصر، ساكناً لا يتحرك، لا ردود فعل عاصفة وشديدة الغضب على قرار البيع وحال القطاع العام وما آلت إليه أصول الدولة وثرواتها، لا كلمات حنجورية من الأحزاب السياسية تنتقد قرار الحكومة، حزب الوفد الليبرالي الذي ملأ الدنيا صراخاً وعويلاً في عامي 2007 و2008 اعتراضاً على تجربة بيع البنك الأولى خفت صوته، كما خفت دوره في الحياة السياسية المصرية، خاصة خلال السنوات الأربع الأخيرة.
وفي وسائل الإعلام، لا تحقيق ولا مقال يندد بقرار بيع بنك القاهرة كما جرى في السابق، بل مر قرار إعادة طرح بيع بنك القاهرة هذه الأيام مرور الكرام على الفضائيات ووسائل الإعلام، ولم يعد الرأي العام مهتماً بقصة بيع ثالث أكبر بنك في مصر.
السؤال: ما الذي تغير في مصر، هل العصا الأمنية الغليظة هي من أوقفت الناس عند حدهم وأعطتهم درساً لن ينسوه في عدم الاعتراض على القرارات الفوقية، أم انشغال الناس بالغلاء ولقمة العيش، أم أنه يأس من الإصلاح الاقتصادي بعد أن يئس المصريون من الإصلاح السياسي، أم أن المشير راضٍ هذه المرة عن صفقة بيع بنك القاهرة، ولذا سكت الجميع؟