في تطور منطقي لرحلة صناعية طويلة بدأت منذ خمسينات القرن الماضي أعلن المغرب منذ أيام عن إنتاج أول سيارة محلية الصنع، كنموذج أوليّ لسيارة تعمل بالهيدروجين، وذلك في حفل ترأسه الملك محمد السادس، الذي أعرب عن سعي بلاده لتعزيز علامة "صُنع في المغرب"، ودعم مكانتها لتكون منصة تنافسية لإنتاج السيارات.
وأشارت وزارة الصناعة المغربية إلى أن النموذج الأولي لمركبة الهيدروجين يتبع لشركة نامكس، وأطلق عليه اسم مركبة الهيدروجين متعددة الأغراض، مؤكدة أن هناك طموحًا مغربيا في الظهور كمركز لإنتاج السيارات الكهربائية تعززه قدرة البلاد الكبيرة في مجال إنتاج الهيدروجين الأخضر.
وتشير العديد من الدراسات إلى إمكانات الدولة المغربية في إنتاج الهيدروجين الأخضر، الذي يعتبر حاليًا البديل الأفضل للطاقة الأحفورية، الأمر الذي يرشحه لتنامي الطلب العالمي عليه بنسب متصاعدة خلال السنوات القادمة، ويعزز الإمكانات المغربية الإنتاجية للهيدروجين الأخضر الاستثمارات العالمية المتوقعة لإنتاجه والتي قدرها بنك الاستثمار الأوروبي باستثمارات تبلغ تريليون يورو في القارة السوداء، ويسعي المغرب لاقتناص الحصة الكبري منها، خاصة أن سعر إنتاج الكيلوغرام أقل من 2 دولار، وهو سعر تنافسي للغاية.
وتظهر التجربة المغربية في صناعة السيارات بصفة عامة كنموذج ملهم، مكّن المغرب من استقطاب كبرى شركات تصنيع السيارات الأجنبية، ورفع نسبة المكونات المحلية في هذه الصناعات، الأمر الذي أبرز المغرب حاليا كأكبر مصنع للسيارات في أفريقيا، فعلى مدى السنوات الثماني الماضية، احتلت السيّارات المرتبة الأولى بين أكثر السلع المغربية تصديرا، إذ بلغت مبيعاتها لعام 2022 ما يقارب 11 مليار دولار، شكلت نحو 20% من إجمالي صادرات البلد، وخلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2023، بلغت الصادرات من صناعة السيارات المغربية 33.9 مليار درهم ( 3.5 مليارات دولار تقريبا)، مسجلة زيادة مذهلة قدرها 44% على أساس سنوي.
رحلة كفاح طويلة
بدأت رحلة قطاع صناعة السيارات في المغرب عام 1959 عندما أنشأت الجمعية المغربية لبناء السيارات (صوماكا) المملوكة للدولة آنذاك أول مصنع للتجميع، صاحب ذلك زيادة كبيرة في الرسوم الجمركية وهو الإجراء الذي نجح إلى حد كبير في تحجيم الواردات، وفي عام 1962 بدأ تجميع سيارات "فيات" ثم "سيمكا" في المصانع المغربية، ثم "رينو" سنة 1966 ثم "سافيم" في 1967 و"بيجو" 1980 و"سيتروين" في 1986.
وشكل توجه المملكة نحو التحرير الاقتصادي في تسعينات القرن الماضي وتخفيض الرسوم الجمركية ضربة موجعة لشركة "صوماكا" ومصانعها، إذ تراجع الإنتاج من 20 ألف سيارة سنويا إلى 8482 سيارة في عام 1995، الأمر الذي عجلً بتوقيع المملكة اتفاقية مع شركة "فيات" لتجميع أول سيارة اقتصادية، وتداركها برفع الرسوم الجمركية مرة أخرى.
ومع بداية القرن الجديد خطت صناعة السيارات في المغرب خطوات واسعة، ففي عام 2003 تمت خصخصة شركة "صوكاما" التى أصبحت النسبة الكبرى من أسهمها مملوكة لشركة رينو والتي ما لبثت أن استحوذت على الشركة بالكامل في مطلع عام 2005، وكانت النقلة الكبرى بإطلاق مدينة طنجة للسيارات عام 2012 وإنشاء المنطقة الحرة الأطلسية في القنيطرة والمنطقة الحرة "تكنوبوليس" في الرباط، حيث نجحت هذه المناطق في جذب الاستثمارات الأجنبية بشكل متزايد، مما أعطى دفعة قوية لعلامة "صنع في المغرب".
وقد اعتبر المعهد الايطالي للدراسات السياسية الدولية ISPI أن المغرب من الدول القليلة في المنطقة التي استفادت من التوزيع الجغرافي للقيم العالمية (الإمدادات الصناعية) منذ العام 2005 بفضل الرهان على التسريع الصناعي وتنويع الاقتصاد والانفتاح على التجارب الخارجية المختلفة، حيث انتقلت حصة الاندماج في سلاسل القيم العالمية من 7.6% إلى 47% في أقل من 13 سنة (بين عامي 2005 و2018).
وتمكنت الرباط من جلب استثمارات ضخمة خلال العقدين الأخيرين شملت أكبر المزودين للأسواق العالمية من الولايات المتحدة والصين واليابان وكوريا الجنوبية والمملكة المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، فرنسا وإيطاليا وإسبانيا.
طموحات حكومية
أشار وزير الصناعة والتجارة المغربي رياض مزور إلى العديد من الطموحات المغربية لقطاع السيارات، حيث يتطلع إلى أن يتشكل ربع اقتصاد المغرب العام القادم من صناعة السيارات، كما يطمح أن تصبح نسبة المكوّن المحلي 80% في عام 2030 وذلك مقارنة بنسبة تبلغ 69% حاليًا، كما يطمح المغرب لمضاعفة قدرته الإنتاجية السنوية إلى مليوني سيارة بحلول عام 2030، من 700 ألف حاليًا.
ويُرتقب أن ترتفع القدرة الإنتاجية للمغرب إلى مليون سيارة بغضون السنوات الثلاث المقبلة، مع ضخّ شركة ستيلانتيس مؤخرًا لاستثمار جديد بقيمة 300 مليون يورو، الأمر الذي سيسهم بمضاعفة قدرة إنتاج مصنعها بمدينة القنيطرة إلى 400 ألف سيارة.
وأشار الوزير كذلك إلى أن الطاقة الإنتاجية حاليا في قطاع السيارات الكهربائية بالمغرب تتراوح بين 40 ألفا و50 ألف سيارة يتم تصنيعها سنويا، مؤكدا أن البرامج الحالية تهدف لرفع الرقم إلى 120 ألف سيارة خلال 3 سنوات، من خلال تقديم عدد من الحوافز لاستقطاب الاستثمارات في هذا المجال.
وكشف مزور عن قُرب توقيع اتفاقية استثمارية بقيمة 50 مليون يورو لإنشاء مصنع مخصص لإنتاج علامة محلية للسيارات بطاقة إنتاجية تناهز 3000 سيارة في العام، على أن يصل الرقم إلى 20 ألفًا بعد 4 سنوات، ليُضاف إلى مصانع شركتي رينو وستيلانتيس التي تبلغ طاقتها الإنتاجية الإجمالية الحالية 700 ألف سيارة في السنة، منها 50 ألف سيارة كهربائية.
وشهد القطاع في الأشهر الماضية استقطاب استثمارات أجنبية مهمة، أبرزها "سوميتومو" اليابانية التي أعلنت عن إنشاء 9 مصانع جديدة حتى 2028، باستثمارات 190 مليون دولار لإنتاج الأجهزة الإلكترونية للسيارات.
وكان الملياردير المصري نجيب ساويرس، الرئيس التنفيذي لشركة أوراسكوم للاستثمار، أبدى استعداده لضخّ حتى 100 مليون دولار في المغرب للاستثمار بشحن السيارات الكهربائية وصناعة البطاريات.
عوامل نجاح الصناعة
يُعد إنتاج السيارات الكهربائية بالمغرب فصلا من رحلة طويلة قطعها قطاع صناعة السيارات منذ نهاية الخمسينات إلى اليوم، توجت بتحول المغرب إلى رائد قاري وإقليمي، وتوجد العديد من العوامل التي ساهمت في هذا النجاح، ويعد توافر البنية التحتية المتطورة أول هذه العوامل، ويأتي الاستثمار في الموارد البشرية كثاني أهم هذه العوامل، وذلك عبر افتتاح المئات من مراكز التدريب والتأهيل التقني والعلمي، والاستفادة من مئات المهندسين المغاربة المنتشرين في الدول الكبرى في التدريب على تصنيع أجزاء العربات والطائرات والأقمار الصناعية والطاقات المتجددة والذكاء الاصطناعي.
أما العامل الثالث فهو الجانب التشريعي والقانوني، حيث يمنح المغرب امتيازات ضريبية للشركات العاملة في مجال التصدير و"الأوفشور" لا تتجاوز في الأقصى حصة 20% من الأرباح الصافية المعلنة، مع إمكان تحويل جزئي أو كلي للأرباح إلى خارج المغرب وتوسيع الاستثمار بالاعتماد على تمويلات مصرفية محلية أو أجنبية.
وأقر البرلمان المغربي قبل نهاية العام المنصرم قانونا جديدا بمثابة ميثاق الاستثمار، ويتضمن تحفيزات مهمة للمستثمرين وتبسيط الإجراءات باعتماد التكنولوجيا في التعامل مع الإدارات الحكومية، والسماح للبلديات والمحافظات بتقديم حوافز عينية للمستثمرين.
أخيرا يمكن القول إن المغرب اكتسب سمعة تنافسية عالمية في صناعة السيارات، نافس بها كلا من الهند والصين في مجال تلقي الاستثمارات الموجهة للتصنيع، كما بات مؤهلا بعد أكثر من عقد من تجربة صناعة السيارات منخفضة التكلفة للانضمام إلى نادي الدول الأكثر تصنيعا في مجال إنتاج سيارات هجينة وكهربائية بالكامل، بما يشكل خطوة هامة للحفاظ على تنافسية عالية في مجال صناعة عربات المستقبل، ولا شك أن التجربة المغربية جديرة بالدراسة والتدقيق والاستفادة من دروسها المتعددة.