استمع إلى الملخص
- **شروط قروض صندوق النقد الدولي وتبعاتها**: تشمل شروط القروض سياسات تقشفية تقلص الإنفاق على الخدمات الاجتماعية، مما يزيد الفقر وعدم المساواة ويجبر الدول النامية على الاستدانة مجدداً.
- **الاحتجاجات العالمية ضد سياسات الصندوق**: شهدت دول مثل كينيا وبنغلاديش احتجاجات ضد سياسات الصندوق التي تشمل رفع الفائدة وتقليص الدعم، مما يعكس استمرار التحديات الاقتصادية.
لم يسعفني الوقت لسماع الجزء الثاني من حوار الدكتور محمود محيي الدين، وزير الاستثمار المصري السابق والمدير التنفيذي حالياً بصندوق النقد الدولي، مع الدكتورة رباب المهدي أستاذة العلوم السياسية بالجامعة الأميركية في القاهرة، في بودكاست "الحل إيه؟" حول الاقتصاد المصري قبل كتابة هذا المقال، ولكني استمعت بدرجة عالية من التركيز للجزء الأول من الحوار الدسم.
حفل الحوار بالكثير من النقاط الهامة التي تستحق الرصد، إلا أن بداية الفيديو كانت لافتة، حيث اختارت المحاورة تشويق المشاهد بالعبارة القيمة التي جاءت على لسان محيي الدين، والتي قال فيها إن "الاستدانة ليست قدراً وإنما هي اختيار".
بعد ذلك كان لافتاً تعليق محيي الدين، الذي أتصور أنه من القلائل الذين جلسوا في مفاوضات صندوق النقد مع مصر على جانبي الطاولة، في أزمنة مختلفة، حين قال إن قروض الصندوق لا تساعد على زيادة النمو، ولا تهدف إلى تحقيق تنمية، ولا تؤدي إلى تحقيق انطلاقات في الاستثمار. وشبّه محيي الدين الصندوق بغرفة العناية المركزة في المستشفى، والتي يطلق عليها في مصر الإنعاش والطوارئ، حيث تلجأ إليه الدول التي تمر بأزمة، للحصول على تمويل مؤقت يفترض أن يستخدم في إصلاح اختلالات مؤقتة.
ولطالما كان صندوق النقد الدولي موضوع جدل واسع بين حكومات الدول التي تلجأ إليه والقوى المعارضة في تلك الدول، بسبب ما يرون ما يقوم به الصندوق من دور في تحفيز الدول الفقيرة إلى الاقتراض. وعلى الرغم من أن الصندوق يدعي تقديم المساعدة لتعزيز الاستقرار الاقتصادي في البلدان النامية، لكن بعض الشواهد تشير إلى أن دوره يؤدي في الكثير من الأحيان إلى نتائج عكسية.
ويرى البعض أن تشجيع الصندوق للاقتصادات الفقيرة على الاقتراض غالباً ما يتحول إلى حالة من "الإدمان على الديون"، مما يفاقم من مشكلات الفقر والتبعية الاقتصادية في هذه البلدان، وهو ما لم ينفه محيي الدين، وإن حاول تبرئة المؤسسة الدولية من الذنب، ملقياً باللوم على الحكومات المتلقية للقروض، والسياسات التي تطبقها.
ومنذ تأسيسه، يقدم صندوق النقد الدولي نفسه على أنه المنقذ المالي للدول التي تواجه أزمات اقتصادية، ولكن على أرض الواقع، يتجلى دوره في جعل الدول النامية أسيرة لديونه، حيث يقدم الصندوق قروضه بشروط صارمة، تشمل فرض سياسات تقشفية وإصلاحات اقتصادية غالباً ما تؤدي إلى تقليص الإنفاق العام على الخدمات الاجتماعية مثل الصحة والتعليم. وتؤدي هذه الشروط في الواقع إلى تفاقم الأوضاع المعيشية للمواطنين وزيادة الفقر وعدم المساواة.
وبدلاً من أن تساهم سياسات الصندوق في تحسين الأوضاع الاقتصادية، نجدها تؤدي إلى زيادة التبعية المالية والاقتصادية للدول الغنية، التي تسمى في كثير من الأحيان "الدول الحليفة"، وتجد الدول المقترضة نفسها مجبرة على الاستدانة مرة أخرى لسد العجز الذي سبّبته هذه السياسات.
ويدفع التشجيع المتواصل من صندوق النقد الدولي للدول الفقيرة على الاقتراض الدول المقترضة إلى الدخول في دائرة مغلقة من الأزمات الاقتصادية. فكل قرض جديد يأتي مصحوباً بشروط جديدة تزيد من العبء الاقتصادي على الدولة، مما يدفعها إلى الاقتراض مرة أخرى لسداد الديون السابقة أو للتكيف مع الأزمات الناجمة عن الشروط المفروضة. وهذه الحلقة المفرغة من الديون تجعل الدول النامية في حالة من الإدمان على الاقتراض، عاجزة عن تطوير اقتصاداتها تطويراً مستقلاً ومستداماً.
وعادة ما تكون النتيجة النهائية لهذا الإدمان هي أن الدول النامية تصبح عاجزة عن الاستثمار في بنيتها التحتية أو تحسين الخدمات الأساسية لمواطنيها، مما يؤدي إلى تدهور مستمر في أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية. ومع مرور الوقت، تفقد هذه الدول سيادتها الاقتصادية والسياسية، وتتراجع قدرتها على اتخاذ قراراتها.
وكانت الأشهر القليلة الماضية مضطربة لبعض الدول المقترضة من صندوق النقد الدولي. ففي يونيو/حزيران، دفعت الاحتجاجات بالآلاف إلى الشوارع في كينيا بعد أن حدد الرئيس الكيني ويليام روتو تخفيضات الإنفاق المطلوبة لإقناع صندوق النقد الدولي بصرف الدفعة الأخيرة من خطة إنقاذ البلاد البالغة 3 مليارات دولار. وبعد شهرين، أطيحت الشيخة حسينة، رئيسة وزراء بنغلاديش، التي اتفقت أيضاً على برنامج مع الصندوق، عندما أشعلت سياسات الإصلاح المفروضة من المؤسسة الدولية في البلاد أعمال شغب.
وفي السادس من سبتمبر/أيلول، حظرت الحكومة الباكستانية التجمعات في العاصمة إسلام أباد، في محاولة لمنع الاحتجاجات المناوئة لإصلاحات صندوق النقد المؤلمة، والتي أجج منها سجن عمران خان، رئيس الوزراء السابق. وعلى مدار العام الماضي، سبّب المحتجون أيضاً إحداث ضجة في غانا وسريلانكا، حيث سعوا إلى معارضة إعادة هيكلة الديون التي صممها صندوق النقد الدولي، ولولا القبضة الحديدية في مصر، ووجود الآلاف في السجون منذ سنوات لمشاركتهم في احتجاجات سلمية، لكان الشعب كله في الشارع الآن.
وكان القاسم المشترك الأعظم في تلك الاحتجاجات في كل هذه الدول هو روشتة صندوق النقد الدولي المألوفة، والتي تشمل رفع الفائدة وتقليص الدعم، وخصخصة الشركات الثمينة بأثمان بخسة، بعد تخفيض قيمة العملات المحلية بنسب هائلة.
ورغم تحدث المسؤولين في مصر عن ثقتهم في نجاح برنامج صندوق النقد الدولي لإصلاح اقتصاد البلاد، والذي فصله محيي الدين على أنه مستويات تضخم ومديونية أقل، ومعدلات نمو اقتصادي واحتياطي نقد أجنبي أعلى بحلول عام 2026، ما زلنا نجد رجال الحكومة المصرية يطرقون أبواب الإمارات والسعودية وقطر، والمؤسسات الدولية المُقرضة، وأصحاب الأموال الساخنة، ويستعدون لطرح أنواع مختلفة من السندات في الأسواق الدولية، لجمع مليارات الدولارات في صورة ديون مرتفعة التكلفة المالية والمعنوية، متعهدين "بأغلظ الإيمانات" لهؤلاء بحماية استثماراتهم وقروضهم.
يحدث ذلك بعد ثمانية أعوام من "العلاقة اللصيقة الوثيقة لمصر مع الصندوق"، على حد تعبير محيي الدين، وعشرات المليارات من الدولارات التي تدفقت على البلاد خلال الأشهر الأخيرة، فلا نملك إلا أن نقول "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".