يقف الفلسطيني حمزة أبو القمبز في طابور طويل أمام أحد صنابير المياه في مُخيم النصيرات للاجئين الفلسطينيين، وسط قطاع غزة، للحصول على كمية من الماء اللازم للشرب والاستخدام اليومي لأفراد أسرته النازحة داخل إحدى مناطق الإيواء.
ويضطر أبو القمبز كغيره من مئات آلاف النازحين لمُغادرة فراشه مُبكرًا للبدء برحلة طويلة لتوفير الماء والخبز والطعام الكافي لأسرته، في ظل حالة من النقص الحاد والفُقدان لعدد كبير من السلع الأساسية والضرورية، بفعل تواصل العدوان الإسرائيلي على قِطاع غزة لليوم الثاني عشر على التوالي.
ويقول أبو القمبز لـ"العربي الجديد"، إن يومه يبدأ مُبكرا، حيث يذهب في ظل القصف والاستهداف المُباشر للمدنيين للوقوف في طوابير طويلة ومُتتالية لتوفير قوت يوم أطفاله، ولتوفير الماء واللوازم الأساسية لأسرته، والتي تُمكنها من كفاف يومها ومتطلباتها الضرورية.
طوابير الغذاء والمياه
ويلفت أبو القمبز، والذي فقد بيته بفعل القصف الإسرائيلي المُباشر لحي الرِمال، وسط مدينة غزة، إلى إنه اضطر للنزوح إلى المنطقة الوسطى بعد التهديد الإسرائيلي للمدنيين بالخروج من المدينة باتجاه جنوبي وادي غزة، ويُعاني بشكل كبير من توفير اللوازم الأساسية، بفعل حالة الإغلاق والنقص الحاد في السلع.
ويقول الثلاثيني الفلسطيني "مع قهرنا الشديد على فقدان البيت، نعيش مُعاناة مزدوجة ومُركبة، حيث نضطر للوقوف في طوابير من أجل توفير مقومات الحياة، وأبرزها الخبز والماء، في ظل الخطر الشديد، فيما نعتصر ألما على بيوتنا التي فقدناها وحياتنا التي تغيرت علينا بشكل كامل".
ولا تقتصر تلك الحالة على النازحين الذين هُجروا من منازلهم بعد تدميرها بالقصف المُباشر من قِبل الطائرات الحربية، أو بسبب التهديدات الإسرائيلية المُتلاحقة بإخلاء مناطق بأكملها، وإنما انسحبت على نحو 2.3 مليون فلسطيني يعيشون ويلات العدوان الإسرائيلي المتواصل لليوم الثاني عشر على التوالي، والمُتصاعد يوما بعد الآخر في مُختلف مناطق ومحافظات القطاع.
أخطار محدقة
يعيش الفلسطينيون في قطاع غزة تفاصيل المُعاناة الحقيقية خلال خروجهم في ظل الخطر المُحدق نتيجة استهداف الطائرات الحربية الإسرائيلية للمدنيين بشكل مُباشر لتوفير مستلزمات أسرهم الأساسية، والمُتعلقة بالحاجيات الضرورية اللازمة لإبقائهم على قيد الحياة.
ويوضح الفلسطيني محمد سالم أنه يجد صعوبة بالغة في شراء الحاجيات الأساسية، وعلى وجه التحديد لوازم الطعام الضرورية والخبز والماء، ويقول: "نضطر إلى الوقوف في طوابير، والدخول في مناطق مزدحمة بالمواطنين الراغبين بتوفير مستلزمات أسرهم للحصول على الطعام الذي يسد رمق أطفالنا".
ويزيد النقص الكبير في البضائع من حالة الضغط التي يعيشها سالم ومن معه، وفق حديثه مع "العربي الجديد"، ويُبين أنه يضطر رغم الازدحام الممزوج بالخطر إلى السير لمسافات طويلة للحصول على صنف من الأصناف المفقودة، فيما ارتفعت أسعار العديد من السلع بسبب الأوضاع العامة.
قصف محيط المخابز
وفي سياق المخاطر التي يتعرض لها سكان غزة للحصول على احتياجاتهم الضرورية، قال رئيس المكتب الإعلامي الحكومي سلامة معروف إن الاحتلال يتعمد قصف واستهداف محيط المخابز خلال اصطفاف عشرات المواطنين على أبوابها لشراء حاجتهم من الخبز، وهو ما أوقع عشرات الشهداء ومئات الجرحى، مبينا أن هذا سلوك إجرامي يعتمده الاحتلال.
وأضاف معروف في تصريح صحافي، أمس الخميس: "تكرار استهداف الاحتلال لمحيط المخابز يؤكد أن مقصده هو إيقاع أكبر قدر من الضحايا ومفاقمة الوضع الإنساني وزيادة صعوبته على المواطنين، حتى بات الحصول على بعض أرغفة الخبز رحلة محفوفة بالمخاطر".
وأشار إلى توثيق استهداف أكثر من خمسة مخابز خلال عملها بمناطق مختلفة في شمال وجنوب قطاع غزة، إما بشكل مباشر أو استهداف محيطها، مثل مخابز: اليازجي تل الهوا، وعجور الغزالي، واليازجي بالأمن العام، وعجور السدرة، والبنا بالنصيرات.
وأوضح معروف أن هذه الجريمة التي يقترفها الاحتلال تثبت عدم وجود أي خطوط حمراء لإجرامه، وتوضح للعالم مجددا طبيعة بنك أهدافه الذي تستهدفه غاراته، ويتنوع بين الأطفال والنساء في منازلهم أو على أبواب المخابز أو داخل مراكز الإيواء، وحتى داخل ساحات المستشفيات، مثلما جرى في مذبحة المعمداني.
وشدد معروف على أن هذا الإجرام المركب يستدعي إدانة واضحة وموقفاً حازما من المجتمع الدولي، وتدخلا عاجلا لوضع حد لتغول الاحتلال على دماء شعبنا وجريمته الإنسانية بحق المدنيين التي يدفع ثمنها الأكبر النساء والأطفال.
انعدام السلع الضرورية
تسبب الإغلاق الإسرائيلي المُشدد للمعابر، ومنع دخول الغذاء والماء وإمدادات الكهرباء والمُساعدات إلى القطاع الذي يعتمد ما يزيد عن 80% من سُكانه على الهِبات الاغاثية والغذائية والمالية بحالة مأساوية تسببت بانعدام وجود السلع الضرورية، أو وجود بعضها بكميات محدودة، ما يخلق حالة من التزاحم والتدافع للحصول عليها.
وتُخصِص المخابز التي تمكنت من افتتاح أبوابها نسبة مُحددة من الخبز لكل أسرة، لضمان أكبر قدر من الاستفادة، في ظل حالة النقص، كما تعرِض المحال التجارية البضائع المتبقية بشكل متقطع خلال ساعات عملها المُحددة لضمان توافرها لأيام أطول خلال العدوان.
وإلى جانب إغلاق المعابر ومنع دخول البضائع، تسبب القصف الإسرائيلي المتواصل، والذي طاول آلاف المنشآت والعمارات السكنية والمدنية والتجارية، في تدمير عدد كبير من المحال التجارية الواقعة أسفل تلك المنشآت أو بداخلها، علاوة على الاستهداف المُباشر للمخابز ومستودعات المواد الغذائية.
وكان برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة قد حذر، يوم الثلاثاء الماضي، من أن الوضع في قطاع غزة يتدهور بشكل متسارع، فيما لم يبق في المتاجر سوى ما يكفي لأربعة أو خمسة أيام من مخزون الغذاء.
وقالت المتحدثة باسم برنامج الأغذية العالمي في الشرق الأوسط عبير عطيفة، لصحافيين في الأمم المتحدة في جنيف، عبر رابط فيديو من القاهرة: "الوضع في غزة يزداد سوءاً كل دقيقة في الوضع الإنساني، ووضع الأمن الغذائي".
وأضافت أن "المخزونات الحالية من المواد الغذائية الأساسية تكفي لمدة أسبوعين فقط، وهذا على مستوى تجار الجملة"، فيما تواجه المستودعات والمتاجر الموجودة في مدينة غزة، شمال القطاع، صعوبات في إعادة التزود بالسلع، وأوضحت أنه "داخل المتاجر تكفي المخزونات (الغذائية) لأقل من بضعة أيام، ربما أربعة أو خمسة أيام".
وقالت عطيفة إنه من أصل خمس مطاحن في قطاع غزة، هناك مطحنة واحدة فقط تعمل بسبب المخاوف الأمنية وعدم توافر الوقود "وبالتالي فإن إمدادات الخبز تتضاءل ويصطف الناس لساعات للحصول عليه".
وأشارت إلى أن خمسة مخابز فقط من أصل 23 تعاقد معها برنامج الأغذية العالمي في غزة ما زالت قيد التشغيل، مؤكدة أن "إمداداتنا الغذائية داخل غزة بدأت تنفد". وأعلنت عطيفة أن المنظمة حشدت أكثر من 300 طن متري من الأغذية المخصصة لقطاع غزة والتي كانت في طريقها إلى معبر رفح، وهو ما يكفي لإطعام حوالي 250 ألف شخص لمدة أسبوع.
وتابعت: "الكل ما زال متفائلا بأننا سنتمكن من الدخول (إلى القطاع)، ولهذا السبب هناك المزيد من الإمدادات في الطريق"، وختمت بالقول: "ندعو إلى السماح بوصول الإمدادات الإنسانية التي تشتد الحاجة إليها في غزة دون عوائق وبشكل آمن".
زحام على صنابير المياه
تظهر ملامح فصول المُعاناة في مختلف شوارع وأزقة ونواصي قطاع غزة، إذ تكتظ الصنابير العامة بأشخاص يحملون الأوعية البلاستيكية لتعبئتها بالماء، كذلك المخابز ومحال بيع اللوازم الضرورية (التي تمكنت من فتح أبوابها) ويقفون في طوابير طويلة وينتظرون دورهم للحصول على الخبز أو الطعام أو الماء، أو باقي المستلزمات اليومية الأساسية والضرورية، في حال توافرها.
وتشهد البقالات والمولات التي تفتتح أبوابها لساعات مُحددة خلال النهار حالة من الاكتظاظ للحصول على مستلزمات الطعام والمستلزمات الهامة، وحالة من الفراغ في الرفوف التي تضم اللوازم الأساسية، بفعل منع الاحتلال الإسرائيلي دخولها إلى قطاع غزة الذي يُعاني بالأساس من التراكمات السلبية للحصار المفروض على القطاع للعام السابع عشر على التوالي.
ويُساهم انقطاع الكهرباء بشكل كامل عن قطاع غزة بفعل قطع الخطوط الإسرائيلية ومنع دخول الوقود اللازم لتشغيل محطة التوليد بانعدام قدرة الأسر الفلسطينية على الطهي، ما يُراكم الطوابير أمام محال بيع المأكولات الشعبية، وأبرزها "الفلافل، والفول"، كذلك المخابز، لعدم قدرة النساء على صنع الخبز بسبب الانقطاع الكامل للكهرباء، ونفاد إمدادات الغاز.
وإلى جانب التأثير المُباشر لانقطاع التيار الكهربائي على الطعام وفساد كميات كبيرة من اللحوم والمواد الغذائية، فإنه يُساهم بعزل أهالي غزة عن العالم، عبر قطع خطوط وشبكات الإنترنت، كذلك عدم القدرة على شحن بطاريات الإضاءة البديلة، ما يُضيف طوابير جديدة لشحنها، وشحن الجوالات في المساجد والأماكن التي تتوافر فيها ألواح الطاقة الشمسية، وذلك لإبقائهم على تواصل قدر المُستطاع ومُتابعة مُستجدات ومُجريات الأحداث من حولهم.
ومع نهاية الأسبوع الثاني من العدوان الإسرائيلي على غزة، تبدو الخسائر والأضرار المالية والاقتصادية للقطاع هائلة جداً في ظل تضرر البنية التحتية والإنشائية والإسكانية بصورةٍ تفوق في مجملها ما حصل في جميع جولات التصعيد والحروب السابقة.