ظل العالم على مدار الشهور الماضية، يترقب ما ستسفر عنه أزمة الديون الأميركية، ومخافة ألا يقر مجلس النواب رفع سقف الدين للحكومة المركزية، لكن في النهاية تم احتواء الأزمة عقب مفاوضات مكثفة أجرتها إدارة الرئيس جو بايدن مع مجلس النواب، وتم على أثرها تجنيب البلاد الوقوع في مخاطر التعثر وإعلان الإفلاس.
قبل طي الأزمة ظلت أسواق المال العالمية في حالة ترقب، وأثيرت وقتها مخاوف بشأن مستقبل الاقتصاد العالمي في إطار السيناريو الأسوأ، وهو عجز أميركا عن سداد الديون، ساعتها تجدد الحديث عن ضرورة بذل مزيد من الجهود للوصول إلى نظام اقتصادي عالمي متعدد الأقطاب، لا تكون فيه الهيمنة المالية للدولار.
ومنذ فترة، ومعهد التمويل الدولي، يمدنا بالبيانات الخاصة بالمديونية العالمية، ونصيب الحكومات والشركات من تلك المديونية، فحسب أحدث تقارير المعهد، فإن قيمة تلك الديون، بلغت في الربع الأول من عام 2023 نحو 305 تريليون دولار، وأن ديون الحكومات منها اقتربت من 100 تريليون دولار.
وكون أزمات الديون عالمية، فلا يعني ذلك أن تستمرئ الحكومات الإسراف في الديون، أو الاعتماد عليها كآلية رئيسية في تمويل التنمية، فثمة آليات أخرى، يمكن الاعتماد عليها، مثل المشاركة، وإفساح المجال للقطاع الخاص والتمويل الأهلي.
وإذا ما كان العالم قد انشغل الفترة الماضية بأزمة الديون الأميركية، فإن العالم كذلك يراقب عن كثب أزمة مديونيات الشركات العقارية الصينية الكبرى والتي تتجاوز مديونياتها تريليونات الدولارات، فأكبر شركة عقارات صينية "ايفرغراند" تزيد مديونياتها وحدها عن نحو 300 مليار دولار.
وما لم يتم التوصل إلى حل مشكلة مديونية هذه الشركة، فإنها ستكون سببًا في اندلاع أزمة مالية عالمية، تقترب من تلك الأزمة التي عاشها العالم في عام 2008، بسبب أزمة الديون العقارية بأميركا.
ولا يتعلق الأمر في قضية الديون الصينية، بديون الشركات العقارية العملاقة، لكن ثمة مخاوف تتعلق بمديونية الحكومة الصينية من جهة، وديون الشركات المتوسطة والصغيرة في الصين من جهة أخرى.
أيضًا هناك مخاوف بشأن ديون الحكومات المحلية، التي جعلت الحكومة تحاول مؤخرا طمأنة الأسواق بالإعلان "إن ديون الحكومة المحلية تحت السيطرة، وإن السلطات لديها ما يكفي من الموارد المالية لتجنب مخاطر فوارق العوائد على سندات الدين، وتسعى لتبديد مخاوف المستثمرين من التخلف المحتمل عن السداد".
وكانت وكالة بلومبيرغ قدرت ديون الحكومات المحلية في الصين بنحو 23 تريليون دولار، وأن هذه المديونية تمثل تهديدًا حقيقيًا لهذه الحكومات، وأنه إذا عجزت تلك الحكومات عن سداد مديونياتها، فقد تضطر الحكومة المركزية إلى اتخاذ إجراءات تقشفية صعبة، مثل خفض الأجور، ورفع أسعار الخدمات.
نفس آليات أميركا
في ضوء أن أزمة المديونية العامة هي أزمة عالمية، تعاني منها معظم الدول المتقدمة والنامية على السواء، فإننا نجد الصين على الطريق نحو أزمة مديونية، ويبقى الأمر مسألة وقت، فحسب بيانات صندوق النقد الدولي بلغت ديون الحكومة الصينية نسبة 82.4% من ناتجها المحلي الإجمالي في عام 2023.
وحسب نفس المصدر، كانت نسبة الديون للناتج المحلي الإجمالي في الصين في عام 2020 بحدود 23% فقط، وهي نسبة معقولة جدًا، لكن في عام 2019، أي بعد مرور قرابة عقدين من الزمن، تجاوزت نسبة الدين العام للحكومة الصينية السقف الآمن للديون المتعارف عليه، فبلغت 60.4%، ثم استمرت في الزيادة.
ويتوقع صندوق النقد أن تصل نسبة الديون للناتج المحلي في الصين إلى 92% عام 2025، وترتفع إلى 104.9% في عام 2028.
وإذا ما تجاوز سقف الديون نسبة 100% من الناتج المحلي الإجمالي للصين، فإن العالم سيكون أمام نفس التهديد الذي واجهه في الحالة الأميركية، خاصة أن الصين تنتهج نفس آليات أميركا، من حيث تمويل الموازنة العامة، وتقديم عملتها للسوق العالمية، عملة تسوية للمعاملات التجارية والمالية، وذلك بعد أن اعتمدت العملة الصينية كعملة للاحتياطيات الدولية، من قبل صندوق النقد الدولي في عام 2016.
وحدة نموذج الأزمة
من المفارقات البارزة في الحالة الصينية، تلك الازدواجية المعمول بها في نظام الحكم، فهي دولة شيوعية في إطارها السياسي، ولديها نظام الحزب الواحد، بينما اقتصادها رأسمالي مالي بحت، فالصين هي الآن التي تتزاعم مطالب حرية التجارة، وتعمل وفق آلية سعر الفائدة في كافة تعاملاتها المالية المتعلقة بالاقتراض، أي أنها غارقة اقتصاديًا في عمق النظام الرأسمالي.
وكما يقولون المقدمات تدل على النتائج، فقضية تمويل التنمية والنشاط الاقتصادي من خلال آلية الديون، عانت منها الاقتصاديات العالمية، ومع ذلك تستمر الحكومات في الاعتماد على الديون المحلية والخارجية، وهو ما أرهق الموازنات العامة، وأدخل المجتمعات في دوامات الديون والعجز والتضخم.
ولم تكن الصين استثناء من القاعدة، فهي تحظي بارتفاع مستمر في ناتجها المحلي، وتتبوأ المرتبة الثانية من حيث قيمة الناتج المحلي على مستوى العالم، حتى بلغ ناتجها عام 2021 قرابة 17.7 تريليون دولار، بينما كانت قيمة الناتج عام 2002 قرابة 1.2 تريليون دولار، حسب أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي.
ونلاحظ أنه مع زيادة قيمة الناتج المحلي للصين لما يزيد عن عقدين من الزمن، وجدنا كذلك زيادة كبيرة في قيمة الدين ونسبته من الناتج، ففي عام 2000 كانت نسبة الديون للناتج المحلي في الصين بحدود 23%، وفي عام 2022 وصلت النسبة إلى 82.4%.
ومع الاعتماد في تمويل القفزات في الناتج المحلي بالصين على الديون، بالإضافة إلى مصادر أخرى، فإن الديون كان لها دور كبير في تمويل قفزة الناتج المحلي.
ومما يساعد على الاعتماد على آلية الديون، وجود تلك السوق الكبيرة لتجارة الديون على الصعيدين المحلي والدولي، مما يشجع الحكومات على ألا تغلق أبوابها لاستيعاب المزيد من الديون.
مخاطر الديون في حالة الصين
من أبرز الاتهامات التي توجه للصين على الصعيد العالمي، في أكثر من قضية، غياب الشفافية، واتضح ذلك بجلاء خلال أزمة جائحة كورونا، وثمة مخاوف معتبرة بشأن الوضع المالي بشكل عام، وما يتعلق بالديون بشكل خاص.
فالصين تفتقد لنظام ديمقراطي، يمكن من خلاله التعرف على البيانات الخاصة بالديون، والإنفاق العام، قد رأينا في حالة أميركا تشريحًا لمكونات الإنفاق الاجتماعي والدفاع، بينما الوضع في الصين ليس كذلك.
فمن يضمن أن تتم الرقابة والمحاسبة المطلوبة، بشأن الديون الصينية، في ظل غياب برلمان منتخب بطريقة ديمقراطية، حيث تعتبر مهمة المراقبة والمحاسبة للحكومة، من أهم خصائص البرلمانات.
وقد تحرص الحكومة الصينية على سلامة وضعها فيما يتعلق بالمديونية الخارجية، من خلال الانتظام في سداد التزاماتها من أقساط وديون، ولكن تبقى القضية فيما يتعلق بالديون المحلية، والتي يمكن أن تؤدي حالة التعثر فيها إلى إعاقة النشاط الاقتصادي، وتراجع معدلات النمو.
وبلا شك أن الاقتصاد الصيني لا يزال يمثل مساهمة مهمة بالاقتصاد العالمي، وتعرّضه لأزمات داخلية، سيؤدي إلى تداعيات سلبية على الصعيد العالمي.
ولكن الأمر يحتاج إلى مزيد من الشفافية لدى الصين فيما يتعلق بالتعامل مع الأزمة، ومعالجة ما ينتج عنها من تداعيات اجتماعية، على الصعيد الداخلي. وتبقى القاعدة الذهبية في التمويل بالديون، أن يتم توجيه الديون لمشروعات إنتاجية، قادرة على سداد التزاماتها عبر أنشطتها المختلفة، دون أن تحمل الموازنة العامة أعباء تثقل كاهلها.