في التاسع من يونيو/ حزيران الماضي، أدانت الولايات المتّحدة وخمسة من حلفائها الرئيسيين وتحديداً أستراليا وبريطانيا وكندا واليابان ونيوزيلندا في بيان مشترك ما سموه سياسة "الإكراه الاقتصادي والسياسات التجارية والاستثمارية" التي تتنافى بشكل مطلق مع مبادئ اقتصاد السوق الحرّ وتقوض عمل النظام التجاري متعدِّد الأطراف القائم على القواعد والثقة.
البيان بالطبع يستهدف الصين ويندِّد بممارساتها المناهضة للمنافسة ومساعيها لنقل التكنولوجيا قسراً، وباستخدامها لأسلوب الضغط واستغلال العلاقات التجارية وسلاسل التوريد لأغراض سياسية.
الحديث عن هذه النقطة ليس جديدا فقد سبق لبكين أن احتجَّت على اعلان مجموعة السبع في مايو/ أيّار الماضي ضرورة تصدِّي الغرب للإكراه الاقتصادي الصيني ووصفته بأنّه تحرُّك أميركي لنسج شبكة مناهضة للصين في العالم الغربي.
وعودة للبيان الأخير حيث ترى هذه الدول الست أنّ سياسة الإكراه الاقتصادي أصبحت جزءاً لا يتجزَّأ من سياسة الصين الخارجية ضدّ العديد من الشركاء التجاريين، حيث تواجه الدول التي تتضامن مع تايوان، أو تدعم الديمقراطية في هونغ كونغ، أو تعارض الإبادة الجماعية في حقّ أقلية الإيغور المسلمة في إقليم شينجيانغ، عقوبات صارمة وحظرا تمييزيا لا يتوافق مع قوانين منظمة التجارة العالمية، الأمر الذي تسبَّب في خسائر اقتصادية بعشرات المليارات من الدولارات للعديد من الشركات الغربية التي تعارض سياسات الصين.
فعلى سبيل المثال، فرضت بكين حظراً على الواردات من ليتوانيا بعد سماح الأخيرة لتايوان بفتح مكتب تمثيل في العاصمة الليتوانية فيلنيوس والذي بدأ نشاطه رسمياً في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، حيث اعتبرت الصين سماح ليتوانيا للمكتب باتِّخاذ "تايوان" بدلاً من "تايبيه" اسماً له بمثابة انتهاك لمبدأ الصين الواحدة، وشهدت ليتوانيا جرّاء ذلك انخفاضاً بنسبة 91% في صادراتها إلى الصين بحسب المفوضية الأوروبية.
في الواقع، بعد فشل حظر الصادرات في تغيير موقف العاصمة فيلنيوس، حذَّرت بكين الشركات التي تحصل على منتجات ومدخلات ومواد خام من ليتوانيا من خضوع علاقاتها التجارية مع الصين إلى التقييد، وبعد ذلك بوقت قصير، لم تتمكَّن شركة كونتيننتال الألمانية التي تستورد مكوِّنات من الشركات الليتوانية من التخليص الجمركي لقطع غيار السيارات في الصين.
ونتيجة لتلك الإكراهات الصينية، وافقت المفوضية الأوروبية في أبريل/ نيسان 2022 على تقديم حزمة دعم مالي بقيمة 130 مليون يورو لدعم الشركات الليتوانية المتأثِّرة بالعقوبات التجارية التي تفرضها الصين على ليتوانيا، كما وقَّع بنك التصدير والاستيراد بالولايات المتّحدة اتِّفاقية مع ليتوانيا بقيمة 600 مليون دولار لدعم الصادرات الليتوانية.
وسبق للسفير الصيني في نيوزيلندا أن صرَّح العام الماضي بأنّه لا ينبغي على نيوزيلاندا اعتبار العلاقة الاقتصادية التي تشتري بموجبها الصين ما يقرب من ثلث الصادرات النيوزيلاندية أمراً مسلماً به ومفروغاً منه، وفقاً لما جاء في مقال نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" في 02 يونيو/ حزيران 2022 تحت عنوان "الصين تحذِّر نيوزيلندا من تبديد العلاقات التجارية" China Warns New Zealand Against Squandering Trade Ties.
في الواقع، تحاول الدول التي لا تستطيع الانفصال عن الاقتصاد الصيني الذي يعدّ ثاني أكبر اقتصاد في العالم الإفلات من الانتقام الاقتصادي للصين من خلال تشكيل ائتلاف جماعي لردع ما يسمُّونه الإكراه الاقتصادي الصيني، واتِّباع استراتيجية ليّ الذراع من خلال التهديد بوقف صادراتها التي تعتمد عليها الصين بشكل كبير.
مع التذكير هنا أنّ هناك نحو 18 دولة تخضع لما يسمى بالإكراه الاقتصادي الصيني، وصدَّرت هذه الدول مجتمعة نحو 46.56 مليار دولار من البضائع التي تزيد نسبتها على 70% من إجمالي واردات الصين من نفس صنف تلك السلع، و30.93 مليار دولار من البضائع التي تفوق نسبتها 80% من إجمالي ما تستورده الصين من بضائع مماثلة، و12.78 مليار دولار من السلع التي تفوق نسبتها 90% في عام 2022، وفقاً لقاعدة بيانات كومتريد "UN Comtrade" التابعة للأمم المتّحدة.
تدرك الدول الست المناوئة لسياسة بكين التجارية والاقتصادية أنّ المناورة بشكل فردي لن تُؤتي أكلها مع الصين، وأنّ العمل الفردي سيكون مجرَّد تهوُّر لا تُحمد عقباه، ونتيجة لذلك قرَّرت الاتِّحاد والعمل بشكل جماعي تحت قيادة وإملاءات الولايات المتّحدة التي لا تفوِّت أية فرصة للتنغيص على بكين، وتخطِّط هذه الدول لردّ الصاع صاعين، وضرب الصين في المكان الذي يوجعها أكثر من خلال التحرُّك بشكل جماعي في آن واحد، ووقف صادراتها التي تعتمد عليها بكين بشدّة كمحاولة لتغيير سلوك الصين وردعها اقتصادياً.
ومع ذلك، فإنّ الانضمام والتعاون والاتِّحاد في إطار الدفاع الاقتصادي الجماعي يمكن أن يكون لها آثار جانبية أخرى تتمثَّل في الصعوبة التي ستواجهها هذه الدول التي تعاني من الإكراه الاقتصادي الصيني في إيجاد أسواق بديلة للصين.
وعند تحليل مخطَّط الردع الاقتصادي الجماعي من زاوية أخرى، يتّضح أنّ تنفيذ هذه الاستراتيجية ليس أمراً سهلاً كما تُصوِّره أميركا لهذه الدول، حيث سيصعب حشد الإرادة السياسية الجماعية اللازمة لدعم هذا المخطط نظراً للتخوُّف من احتمال ظهور مشكلة الركوب المجاني Free-riding التي يمكن بموجبها للدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتّحدة الاستفادة بشكل أكبر ودون جهد من العمل الجماعي للدول الصغيرة التي لن تتردَّد الصين في استهدافها باعتبارها الحلقة الأضعف، وقد لا تُبدي الكثير من الشركات استعدادها للمشاركة في هذا المُخطَّط خوفاً من أن تجد نفسها في صراع فردي مع الانتقام الصيني الذي لا تقوى عليه.
قد تجد الدول الصغيرة التي تعاني من سياسة الإكراه الاقتصادي الصيني والتي لا تكفّ عن مضايقة الصين بتحريض من الولايات المتحدة نفسها عرضة لمخاطر لا تدرك حجمها الآن، وليس من المستبعد أن تُدهَس تحت الأقدام في صراع القوى العظمى.
خلاصة القول، شتّان ما بين القول والفعل، قد يكون الكلام سهلاً، لكن الفعل صعب. تتوهَّم الولايات المتّحدة أنّه يمكنها تحقيق انتصار نوعي وسريع من خلال تأليب الغرب على الصين، لكنها غير قادرة حتى الآن على حشد تأييد سياسي واسع النطاق لتنفيذ تكتيكاتها ومخطَّطاتها التي تهدف بالدرجة الأولى إلى تقييد وصول الصين إلى أحدث أنواع التكنولوجيا.