تحتفل الأمم المتحدة في السابع من أكتوبر من كل عام باليوم العالمي للقطن. وحسب موقع المنظمة الدولية، فإن القطن "يغير مجرى معايش ما يزيد عن 32 مليون مزارع (معظمهم من النساء) حول العالم، فضلا عن النفع الذي يعود به على ما يزيد عن 100 مليون أسرة في 80 دولة في خمس قارات".
وقد كان القطن أحد أهم المحاصيل الاستراتيجية في مصر، منذ عقود، فقد قامت عليه أهم الصناعات في مطلع القرن العشرين، من حلج وغزل ونسيج، منذ عهد محمد علي.
وكم تغنّى الشعراء والأدباء بالذهب الأبيض في مصر، وظل محصول القطن وموسمه يعني الانفراجة المادية لملايين الفلاحين، حيث كان محصولًا نقديًا، سواء في ظل النظام الملكي، أو بعد عام 1952، وكانت غالبية احتياجات الفلاحين المادية والاجتماعية مرهونة بحصاد محصول القطن.
ولعهد قريب، كانت بعض المحافظات تؤجل بداية العام الدراسي، لحين الانتهاء من جني محصول القطن، بسبب أن أعدادًا كبيرة من تلاميذ المرحلتين الابتدائية والإعدادية، يعملون في جني القطن.
إلا أن السياسات الزراعية التي انتهجتها مصر منذ مطلع التسعينيات من القرن العشرين، ساعدت بقوة في تراجع المساحات المزروعة بمحصول القطن، وبالتالي تراجع الكميات المنتجة من القطن، وكذلك تراجع كمية الصادرات.
ففي عام 1990 كانت الأراضي المزروعة بالقطن في مصر 933 ألف فدان، تراجعت في عام 1997 إلى 860 ألف فدان، إلا أن أرقام 2022 تظهر تراجع مساحات زراعة القطن إلى 237 ألف فدان فقط، لتصبح قرابة نسبة 25.4% تقريبًا مما كان عليه الوضع في 1990.
ويأتي هذا التراجع لأسباب عدة، منها إلغاء نظام التركيب المحصولي، وكذلك تخلي الدولة عن تجارة القطن وتركه للقطاع الخاص دون تمهيد لإكساب الفلاح الخبرة للانتقال من نظام التوريد للحكومة والحصول على أسعار محددة مسبقًا، إلى نظام السوق الحر، ليجد الفلاح نفسه وجهًا لوجه مع التجار.
وكانت سياسة التوريد التي تتبعها الحكومة المصرية، مهمة وضرورية إلى ما قبل دخول مصر في برنامج الإصلاح الاقتصادي عام 1991/1992، حيث تمت خصخصة الشركات التي كانت تستفيد من القطن المورّد للحكومة. وأصبحت شركات النسيج العامة، أو التي تم خصخصتها، تقوم بتدبير احتياجاتها من الغزل والنسيج، بعيدًا عن سلسلة التوريد الحكومية.
لتجد هذه الشركات وتلك الصناعة نفسها أمام أبواب منافسة لم تعد لها من قبل، وهو ما تسبب في خسائر كبيرة لتلك الشركات في المرحلة الأولى، ثم غلقها وخصخصتها في المرحلة الثانية، بل بعضها تم تسويته بالأرض مؤخرًا، لتقام عليه مشروعات عقارية.
أيضًا كانت للسياسة التحررية، التي اتبعتها الحكومة تجاه المحاصيل الزراعية، وكذلك التخلي عن سياسات الدعم للبذور والسماد، أثر واضح في اتجه الفلاحين إلى المحاصيل ذات العائد المادي الأعلى والأكثر ربحية مثل الخضروات والفاكهة.
وحسب الأرقام الرسمية للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مارس 2023، بلغت المساحة المنزرعة بالقطن 237 ألف فدان، وكميات الإنتاج 305 آلاف طن. وتعد محافظات كفر الشيخ، الدقهلية، الشرقية، البحيرة، الأكثر حظًا في زراعة القطن بمصر، ويبلغ إنتاجها حسب إحصاءات آخر عام على التوالي 101 ألف طن، و71 ألف طن، و45 ألف طن، و32 ألف طن.
وفي مقارنة بين عامي 2002 و2021، نجد أن موقف تجارة القطن لمصر تغيرت بشكل كبير، ففي عام 2002 كانت واردات مصر من القطن 6 آلاف طن فقط، بينما كانت صادراتها من القطن 198 ألف طن.
وفي عام 2021 حدث تغير كبير، ولكنه تغير سلبي، فواردات مصر من القطن قفزت إلى 84.8 ألف طن، بينما صادرات مصر القطنية بلغت 130.2 ألف طن.
وعلى مدار 20 سنة تقريبًا، قفزت الواردات القطنية لمصر من 6 آلاف طن إلى 84 ألف طن، وصاحب ذلك تراجع الصادرات من 198 ألف طن إلى 130 ألف طن، وهذه الفترة الزمنية كافية لرصد تدهور الصادرات وزيادة الواردات، ولكنها سياسة الاستسهال، وغياب المسؤولية والمحاسبة، فعلى كل الصعد تتحقق خسارة للاقتصاد المصري في قطاع زراعة القطن وصناعة النسيج.
والمعلوم أن القطن المصري يتسم بجودة عالية، وهو من النوعية طويلة التيلة، وتقوم مصر بتصديره إلى أكثر من 20 دولة، على رأسها الهند والصين وباكستان.
وحسب دراسة في المجلة المصرية للاقتصاد والزراعة، بعنوان "تقدير الطلب على صادرات القطن المصري في أهم الأسواق الخارجية"، فإن متوسط حصيلة الصادرات المصرية من القطن عند 483 مليون دولار خلال الفترة من 2012 إلى 2021.
عجز الصناعات النسيجية
التقرير السنوي للبنك المركزي المصري لعام 2020/2021، يبين أن الميزان السلعي للمواد النسيجية ومصنوعاتها، يعاني عجزًا مزمنًا، حيث بلغ هذا العجز 1.2 مليار دولار، ففي حين بلغت الصادرات النسيجية لمصر 2.6 مليار دولار، وصلت الواردات النسيجية 3.8 مليارات دولار.
ويرجع هذا العجز إلى التغيّر الحاصل في سياسات زراعة القطن، وكذلك ما يتعلق بصناعات النسيج، فتراجع المساحات المزروعة بالقطن، وكذلك تراجع الكميات المصدرة، وزيادة الكميات المستوردة، سواء من القطن أو من النسيج والملابس الجاهزة، لم تؤد إلى تبنّي الحكومة استراتيجية للمواجهة.
ففضلًا عن أزمة مصر من موارد النقد الأجنبي، فإن زراعة القطن وما يترتب عليه من صناعات الغزل والنسيج، من الأمور الضرورية جدًا لسوق العمل، حيث إنها من الصناعات كثيفة العمل>
ومصر لديها مشكلة بطالة دائمة، كما أن لديها عددًا كبيرًا من الداخلين الجدد لسوق العمل، وهو ما كان يجعل الحكومة لا تفرط في هذه الميزة التنافسية لأسواقها وقطاعاتها الاقتصادية في مجال زراعة القطن والصناعات النسيجية، لتوفير فرص عمل.
تعديل المسار الخاطئ
من الطبيعي، أن تكون هناك حلقات وصل بين مختلف الأنشطة الاقتصادية، خاصة داخل البلد الواحد، إذا كان يمتلك مقومات وإمكانيات سلسلة الإنتاج، وتتفرد مصر في مجال زراعة القطن، وما ينبني عليه من صناعات بتاريخ طويل، وخبرات متراكمة.
ويعد مركز البحوث وكليات الزراعة المصرية، هي الأقدم من بين مثيلتها في الشرق الأوسط، ولديها ما تقدمه في استراتيجية النهوض بزراعة القطن، وصناعة النسيج، ولكن الأمر يتطلب ربط الجامعات ومراكز البحوث بالزراعة والصناعة، حتى يتحقق هذا التكامل، ويكون الأمر إضافة للنشاط الاقتصادي، ويؤدي إلى توفير العملات الصعبة، وتحويل العجز التجاري لهذه السلعة إلى فائض، خاصة أنها سلعة ضرورية وعليها طلب مستمر ومتجدد.
ولكن للأسف عند تناول ما يخص زراعة القطن أو صناعة النسيج، عادة ما تكون محصورة في تدني أسعار بيع القطن، أو الخسائر التي تتكبدها شركات النسيج. أما استراتيجية النهوض، وإسناد المسؤولية إلى الحكومة باعتبارها صانعة السياسات، والقائمة على ضرورة الربط بين الحلقات المتعددة للصناعة، فأمر مفقود، شأنه شأن العديد من الأمور في مصر.
ففي كل عام، يتم طرح القضية في المجالس النيابية، وتنتهي بجلسات كلامية، عن ظلم الفلاح وجشع التجار، ولكن لا أحد يشير إلى المسؤولية المجتمعية التضامنية، ما بين الحكومة ومجتمع الأعمال والمجتمع المدني لتحقيق حالة نجاح في مجال زراعة القطن وصناعة النسيج، بدلًا من التراجع المستمر والمزمن.