من المفروض أن يزن أي مسؤول في مصر الكلام الصادر عنه بميزان الذهب الحساس، فالتصريحات الرسمية يجب أن تكون محسوبة وبدقة شديدة، والأرقام يجب أن تكون مدققة بعناية وتتم مراجعتها مع المستشارين والجهات الرسمية قبل إطلاقها والكشف عنها.
حتى موعد إطلاق التصريحات لا بد أن يكون محسوبا أيضا بدقة، ومفردات الكلمات منتقاة وحركات الجسد محسوبة ومبرمجة، لأن المواطن والأسواق الداخلية والاقتصاد، ومعهم الأسواق الخارجية والمستثمرون الأجانب وصناديق الاستثمار والمؤسسات الدولية، يتابعون بدقة تلك التصريحات والأرقام، ويرسمون على أثرها خططا وقرارات واستراتيجيات قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل.
هذا عن المسؤول العادي، وزير أو حتى رئيس مؤسسة رقابية مثل البنك المركزي وجهاز المحاسبات، أو حتى رئيس شركة قابضة، أو رئيس شركة مدرجة في البورصة، أو رئيس مجلس إدارة بنك، فما بالك إذا كان هذا المسؤول هو رئيس وزراء مصر مصطفى مدبولي، والذي من المفروض أن تحلل الأسواق والمستثمرون الدوليون وبنوك الاستثمار وأصحاب الأموال تصريحاته وتحركاته واجتماعاته بعناية شديدة لاتخاذ القرار على أثرها.
ما بالك إذا كان المسؤول الأول عن رسم السياسات الاقتصادية والمالية في مصر يطلق أرقاما غير دقيقة
وما بالك إذا كان المسؤول الأول عن رسم السياسات الاقتصادية والمالية في مصر يطلق أرقاما غير دقيقة، ولا علاقة لها بالواقع من قريب أو بعيد؟ أرقام مبالغ فيها بشدة إذا ما قارنتها بأرقام رسمية أخرى مثل بنود موازنة الدولة وبيانات البنك المركزي والوزارات المختلفة ومنها وزارة المالية نفسها، أرقام تبعث القلق من دقة كل البيانات الصادرة عن الحكومة وربما تهز درجة المصداقية والثقة بها.
خلال اجتماع رئيس الوزراء يوم الأربعاء أطلق مدبولي أرقاما عدة غير دقيقة تتعلق بحجم الدعم المقدم من موازنة الدولة للخدمات المقدمة للمواطن سواء الأدوية أو الكهرباء. منها مثلا قوله إن دعم الدولة للكهرباء خلال عام واحد وصل إلى 90 مليار جنيه، " الدولار يساوي 30.85 جنيها بالأسعار الرسمية"، وإن الدولة تحملت كل تلك الأموال، ومن الاستحالة لأي دولة أن تستمر في زيادة الدين والاستدانة.
ومنها أيضا أن مخصصات موازنة الدولة لدعم فاتورة الأدوية التي تصرف بالمجان في المستشفيات الحكومية تبلغ 22 مليار جنيه، رغم أن أرقام وزارة المالية والموازنة العامة للدولة 2023/ 2024 تقول إن اجمالي ما تم تخصيصه للتأمين الصحي والأدوية يبلغ 6 مليارات جنيه، فما بالنا ومدبولي يتحدث عن 22 مليارا للأدوية فقط؟
رئيس الوزراء يعلم جيدا أن الحكومة لم تعد تدعم فواتير الكهرباء، وأن هذا الدعم في مشروع الموازنة الحالية 2023/ 2024 هو "صفر"، وفق البيان التحليلي لمشروع الموازنة العامة المنشور على موقع وزارة المالية، وأن الحكومة توقفت بشكل كامل عن دعم الكهرباء منذ العام المالي 2020/ 2021، وأن بيانات الموازنة تظهر أن قيمة هذا الدعم منذ 3 سنوات "صفر، وأن المستهلك يتحمل كلفة الفاتورة كاملة".
حتى بالرجوع إلى البيان المالي للعام المالي الحالي 2023/ 2024 والمقدم من محمد معيط إلى مجلس النواب يوم 5 يوليو 2023، نجد أن قيمة التخفيض في أسعار بيع الطاقة الكهربائية الذي تتحمله الموازنة العامة للدولة بلغ نحو 6 مليارات جنيه فقط، وأن هذه الأموال، وحسب بيان وزارة المالية نفسها، تم توجيهها لدعم قطاع الصناعة الذي يعاني بشدة من زيادة تكلفة الطاقة، وليس للتخفيف عن المواطن العادي أو خفض فواتير المنازل، وأن هذا الدعم يمثل قيمة تخفيض أسعار بيع الطاقة الموردة للأنشطة الصناعية بواقع 10 قروش لكل كيلو وات ساعة، وتتحمله وزارة المالية بناء على قرار مجلس الوزراء رقم (781) لسنة 2020.
رئيس الوزراء يعلم جيدا أن الحكومة لم تعد تدعم فواتير الكهرباء، وأن هذا الدعم في مشروع الموازنة الحالية 2023/ 2024 هو "صفر"
لن أتحدث عن المهازل التي تحدث في المستشفيات الحكومية وسوء الخدمة بها، وإرغام المواطن أحيانا على شراء الأدوية ومستلزمات الجراحة، ولن أعقب كثيرا هنا على تصريح مدبولي الذي قال فيه إن القرارات التي تتخذها حكومته هي لصالح المواطن، فهذا الكلام غير صحيح بشكل مطلق.
فالمواطن يئن من قفزات الأسعار والخدمات بشكل متواصل، مع ضعف قدرته الشرائية وحجم الدخول والتضخم وتأكّل العملة المحلية وقفزة الدولار وزيادة الضرائب والرسوم الحكومية، في الوقت الذي لا يلمس تحسنا ملحوظا في الخدمات المقدمة. خذ مثلا الكهرباء والتي قررت الحكومة هذا الأسبوع زيادة فواتيرها بنسبة 20% في الوقت الذي تواصل فيه قطع التيار، والملفت أن الزيادة الأخيرة في فواتير الكهرباء تأتي في الوقت الذي تتراجع فيه أسعار الطاقة على مستوى العالم أو على الأقل تشهد ثباتا في سعر النفط.
لا أعرف من تلك الجهة التي تزود رئيس وزراء بتلك الأرقام غير الدقيقة، خاصة أن طالبا في المدرسة الابتدائية يستطيع الوصول للأرقام الرسمية المعلنة.
وهل تدرك تلك الجهة حجم مخاطر ذلك السلوك المعيب على مصداقية كل الأرقام والبيانات الصادرة عن الجهات الرسمية، ودعم مقولة "كلام حكومة"، و"الورق ورقهم والدفاتر دفاترهم" في إشارة إلى عدم التعامل بجدية مع تلك الأرقام، خاصة إذا ما تعلقت بمعيشة الناس وأحوالهم المالية والتي لا تخفى عن أحد؟