تسابق سلطنة عمان الزمن لمواكبة ثورة الطاقة الجديدة حول العالم، المتولدة عن الهيدروجين الأخضر، خاصة مع تزايد الحديث عن بلوغ العصر النفطي ذروته، في الوقت الذي شكّلت فيه المصادر المستخرجة من باطن الأرض أهم ثروات دول المنطقة العربية على مدى قرن مضى، ما دفع حكومة السلطنة إلى إطلاق استراتيجيتها الوطنية للحياد الكربوني في 24 فبراير/شباط الماضي.
وينتج الهيدروجين الأخضر عن تحليل كهربائي للماء باستعمال طاقات متجددة، يؤدي إلى تفكيكه وفصل ذرات الهيدروجين عن الأوكسجين، وهي الذرات التي يمكن استخدامها في إنتاج الحرارة من خلال مزجها بغاز الميثان، أو استعمالها في محركات السيارات، إما لإنتاج الكهرباء بواسطة بطارية، أو إنتاج طاقة حرارية عبر احتراق الهيدروجين.
والذرات الناتجة عن عملية التحليل الكهربائي للماء قادرة على توليد طاقة هائلة، مع انعدام تام للانبعاثات الغازية الضارة، ولذا تسمى بالهيدروجين الأخضر.
ويحل إنتاج الهيدروجين الأخضر مشكلة التخزين الكبيرة، التي كانت تواجه الطاقات المتجددة، إذ يعتبر إنتاجه بواسطة طاقتي الريح والشمس نوعاً من تخزين هذه الطاقة، حيث تتحول الطاقة الناتجة عن استغلال أشعة الشمس أو تيارات الريح، إلى طاقة هيدروجينية يمكن استغلالها في تشغيل محركات السيارات، أو أي استعمالات ميكانيكية أخرى، مع ضمان خلو مسار إنتاج الطاقة هذا من أي انبعاثات مضرة.
مسار الحياد الكربوني
وفي هذا الإطار، يعتبر الهيدروجين الأخضر مرتكزاً رئيسياً في مسار الاستراتيجية العمانية للانتقال المنظم إلى الحياد الكربوني، وحددت حكومة السلطنة متطلباته الاستثمارية للوصول إلى قدرة التصدير بقيمة 230 مليار دولار.
وتطرق الحوار الاستراتيجي بين سلطنة عمان والولايات المتحدة الأميركية، الذي انطلق في 23 فبراير/شباط الماضي، إلى التعاون بمجال إنتاج الهيدروجين الأخضر، ومن هنا جاءت أهمية توقيع رئيسة بنك التصدير والاستيراد الأميركي "إكسيم"، ريتا جو لويس، على مذكرة تفاهم مع وكيل وزارة المالية العمانية عبد الله بن سالم الحارثي، إذ يعد البنك رافداً مالياً متوقعاً لتلبية الحاجة الاستثمارية المطلوبة في قطاع الطاقة البديلة بالسلطنة.
وحسب التقرير الأخير لمنظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول "أوابك"، فإن سلطنة عمان تستهدف إنتاج الهيدروجين الأخضر بمعدل 1 إلى 1.25 مليون طن سنوياً بحلول عام 2030، ومعدل 3.25 و3.75 ملايين طن سنوياً بحلول 2040.
كما أورد التقرير أن عمان تخطط للوصول إلى إنتاج 8.5 ملايين طن من الهيدروجين الأخضر سنوياً بحلول عام 2050، وهو العام الذي حددته حكومة السلطنة لتحقيق هدف الحياد الكربوني.
ويتوقع تقرير لوكالة الطاقة المتجددة "آيرينا" أن يشهد العام ذاته تغطية الهيدروجين لنحو 12% من استخدام الطاقة العالمي.
مشروع استراتيجي
وتنص الاستراتيجية الوطنية العمانية، التي اطلعت عليها "العربي الجديد"، على إزالة الكربون حتى عام 2030 و2040 بنسبة 6% و54% على التوالي، مقارنة بانبعاثات عام 2021، وهو ما يتواكب مع مشروعها لإنتاج الهيدروجين الأخضر في مسارين متوازيين.
وتؤشر تلك المعطيات إلى "مشروع استراتيجي طويل الأجل" وواضح الملامح في سلطنة عمان، بحسب توصيف الخبير الاقتصادي علي أحمد درويش، في إطار تحسب مسقط للتغيرات التي تطرأ على العالم وتأثيرها الاقتصادي.
وأشار درويش، في تصريح لـ "العربي الجديد"، إلى أن التنويع الاقتصادي لم يعد رفاهية، في ظل تصاعد الصراعات العالمية، وتأثيرها المتفاقم على جل القطاعات الاقتصادية، وعلى رأسها الطاقة.
لكن التحدي الذي سيواجه تحقيق السلطنة هذا التنويع هو التمويل، ولذا فإن قدرة الحكومة العمانية على جذب الاستثمارات اللازمة لمشروعات الهيدروجين الأخضر هي الفيصل في حسم نجاحها من عدمه، حسبما يرى درويش.
وأشار إلى أن قدرة السلطنة على تصدير الهيدروجين الأخضر مستقبلاً ستمثل علامة فارقة، نظراً لمركزية الهيدروجين الأخضر المتوقعة كمستقبل للطاقة النظيفة، خاصة في الصين وأوروبا.
وكانت وزارة الطاقة والمعادن العمانية قد دشنت العديد من أسس البنية الأساسية اللازمة مستهدفات إنتاج الهيدروجين الأخضر، ففي أغسطس/آب 2021، دشنت تحالفاً وطنياً للهيدروجين، يُعرف بـ"هاي فلاي"، لإرساء مكانتها على خريطة تطوير إنتاج الهيدروجين النظيف. كما دشنت حكومة السلطنة أقساماً للهيدروجين الأخضر في العديد من الوزارات الاقتصادية، وأسست شركة مملوكة للدولة باسم "هيدروجين ديفلوبمنت عمان".
ولا تأتي هذه الجهود ضمن التزام عمان بتنمية مصادر الطاقة المتجددة فقط، إذ يتجاوز الاستثمار العماني عملية استبدال الطاقة إلى آفاق صناعية أبعد، تتمثل في استهداف السلطنة استخدام الهيدروجين الأخضر في عدد من مشروعات الصناعات الثقيلة، ومنها مصنع ضخم للصلب، بدلاً من الوقود التقليدي، حسبما صرح مدير البحوث الاقتصادية بالمركز العالمي للدراسات التنموية، صادق الركابي، لـ "العربي الجديد".
وأضاف الركابي أن سلطنة عمان تطمح أيضاً إلى أن تكون لديها قدرة على إجراء إصلاحات هيكلية في اقتصادها عبر تطوير القطاع غير النفطي، وتوقع أن يسهم هذا الاتجاه في خلق مزيد من الطلب على الهيدروجين الأخضر، ليس فقط في السلطنة ومحيطها الآسيوي، الذي يحتاج إلى هذا النوع من الطاقة، وإنما في عدد من الدول الأفريقية أيضاً.
كما يرجح الركابي نجاح السلطنة في تحقيق مستهدفاتها الخاصة بالهيدروجين الأخضر خلال العقود المقبلة، وصولاً إلى إزالة كاملة للكربون بحلول عام 2050.
استثمار المستقبل
وفي السياق، ينوّه الخبير الاقتصادي محمد الناير بأن الاستعداد العماني لمرحلة التصدير أحد أهم العوامل المساعدة على تحقيق حكومة السلطنة معدلات إيجابية بمستهدفات رؤية 2040، سواء على المستوى المحلي، بإحلال وقود الهيدروجين تدريجياً محل نظيره الأحفوري، أو عالمياً، عبر السبق لضمان حصة تصدير مستقبلية تجعل الوزن النسبي التصديري للسلطنة في سوق الطاقة الجديدة أعلى من نظيره في سوق الطاقة التقليدية.
ينوّه الخبير الاقتصادي محمد الناير بأن الاستعداد العماني لمرحلة التصدير أحد أهم العوامل المساعدة على تحقيق حكومة السلطنة معدلات إيجابية
فالعالم كله يتجه نحو الطاقة النظيفة، ولذا فإن إطلاق الاستراتيجية العمانية يمثل قراءة صحيحة للمستقبل، وإعداد عملي لوضع تنافسي أفضل، حسبما صرح الناير لـ "العربي الجديد"، مشيراً إلى أن تفاقم أثر التغير المناخي السلبي على العالم، خاصة دول الخليج التي يشتد فيها الاحترار سنوياً، جعل من التحول إلى الطاقة الخضراء أمراً لا مفر منه، وعليه فإن استثمار عمان في الهيدروجين الأخضر هو استثمار في المستقبل.
وتُقدر الاستراتيجية الوطنية العمانية استثماراً رأسمالياً بقيمة 190 مليار دولار بالنسبة إلى سيناريو "العمل كالمعتاد" في إنتاج الهيدروجين الأخضر بالسلطنة، تغطي النفقات المخصصات للبنية التحتية للكهرباء والهيدروجين، بما في ذلك تحديث شبكة الكهرباء وتوسيعها في البلاد، وخطوط أنابيب الهيدروجين والتخزين، فضلاً عن البنية التحتية لشحن السيارات الكهربائية، ونشر تخزين الكهرباء طويل الأمد.
وبإضافة القيمة الاستثمارية المقدرة للوصول إلى قدرة التصدير (230 مليار دولار إضافية) بالاستراتيجية، فإن مجموع ما تحتاجه السلطنة لمواكبة ثورة الطاقة الجديدة يصل إلى 420 مليار دولار (161.5 مليار ريال عماني)، ولذا فهي بحاجة إلى شراكات دولية داعمة.