ببساطة، نحن نعيش عصر المكارثية في أبشع وأحدث صورها، عصر تُنكل فيه الأنظمة الحاكمة بمعارضيها السياسيين والمخالفين لها في الرأي، حتى ولو وصل الأمر إلى حد قطع أرزاقهم وفصلهم من وظائفهم واغتيالهم معنوياً عبر اتهامات بالجملة تطعن في شرفهم ووطنيتهم، ثم التنكيل بهم وإقصائهم عن المجتمع والوظائف العامة، وربما قطع أعناقهم والحكم بإعدامهم كما حدث مؤخرا، وكله بالقانون.
المكارثية في أبسط تعريف لها هي أن شخصا، أو جهة أو حتى سلطة قائمة، يوجه الاتهامات لمعارضيه بالتآمر والخيانة ومحاولة قلب نظام الحكم دون الاهتمام بتقديم أدلة أو جمعها.
فآخر ما يهم هؤلاء هو إثبات الحقيقة، فقط المطلوب إزالة المعارض والمخالف لها في الرأي من الوجود ومن على وجه الأرض وبأي ثمن، وقبلها إذلاله اقتصادياً ومادياً وتضييق سبل العيش عليه، وترهيب من يقبل بتشغيل هؤلاء.
حدث ذلك إبان حكم الاتحاد السوفييتي الذي تناوب على حكمه أشهر الطغاة في العصر الحديث مثل جوزيف ستالين، وحدث في أنظمة ديكتاتورية ومستبدة وقمعية أخرى كما هو الحال أيام حكم أدولف هتلر وموسيليني وماو تسي تونغ وسلوبودان ميلوشيفيتش ونيكولاي تشاوشيسكو.
البرلمان المصري يقر قانونا ينص على فصل أي موظف في الجهاز الإداري للدولة يَثبُت انتماؤه إلى جماعة "الإخوان"
كما حدث في الولايات المتحدة في خمسينيات القرن الماضي، وتحديا الفترة ما بين عام 1947 وعام 1957، عندما اتهم جوزيف مكارثي عضو مجلس الشيوخ ورئيس إحدى اللجان الفرعية بالمجلس عدداً كبيرا من موظفي الحكومة بأنهم شيوعيون يعملون لمصلحة الاتحاد السوفييتي.
وقاد الاتهام إلى سجن هؤلاء والتنكيل بهم، كما حقق مكتب التحقيق الفيدرالي "إف. بي. آي" مع ثلاثة آلاف دبلوماسي بسبب اتهامات "مكارثي" الذي تبين في ما بعد أن معظم اتهاماته كانت غير صحيحة وعلى غير أساس.
وفي ظل تلك المكارثية والنظم الفاشية، المطلوب فقط أن نصدق مزاعم هؤلاء دون أن يقدموا لنا دليلاً واحداً على صدق زعمهم، فمناقشة هؤلاء وطلب دليل مادي منهم على مزاعمهم قد يقودك إلى العزل من الوظيفة وربما إلى السجن.
في مصر، ومن الآن فصاعدا يستطيع أي موظف كسول أو فاشل أو حقود أن يتسبب في فصل زميله الجالس بجواره في المكتب منذ سنوات طويلة، بل ويستطيع أن يفصل مديره ورئيسه في العمل إن أراد.
ليس مطلوبا من هذا الفاشل إثبات أن زميله مهمل في عمله ومقصر في أداء وظيفته، أو أنه يستفيد من موقعه ويتقاضى رشى وعمولات وأموالا غير قانونية، فقط مطلوب إبلاغ السلطات صاحبة القرار بأن هذا الموظف من "الإخوان"، وينتمي إلى تلك "الجماعة المحظورة" قانونا منذ سنوات، أو أنه متزوج من عائلة إخوانية، أو أن أحد أقاربه من الإخوان، أو أنه جلس في يوم ما مع شخص ينتمي للجماعة.
ليس مطلوبا من هذا الموظف الكسول الحاقد تقديم دليل على زعمه، فقط إطلاق تلك التهم على المشاع وإلصاقها بأي شخص لا يروق له ولا يرتاح له نفسيا، أو أنه شخص صالح وهو فاسد ومنحط أخلاقيا.
القانون يخالف أحكام الدستور الذي نص على "عدم التمييز بين المواطنين أمام القانون بسبب الانتماء السياسي أو لأي سبب آخر"
اليوم الإثنين، وافق مجلس النواب المصري، بصفة نهائية، على تعديل بعض أحكام القانون رقم 10 لسنة 1972 بشأن "الفصل بغير الطريق التأديبي".
القانون يهدف بشكل أساسي إلى فصل أي موظف في الجهاز الإداري للدولة يَثبُت انتماؤه إلى جماعة "الإخوان المسلمين" بشهادة أعضاء في الحكومة ووزراء ونواب في البرلمان.
وقد مهدت الحكومة للقانون عدة مرات عبر عدة تصريحات أبرزها كان لوزير النقل كامل الوزير الذي أكد صراحة وأمام البرلمان أن القانون يستهدف إبعاد المنتمين إلى الإخوان من الوظائف الحكومية، وأن جماعة الإخوان قامت بتعيين 3 آلاف موظف في السكك الحديدية أثناء حكم محمد مرسي، ولم تستفد منهم ولا يقدمون أي إنتاج ويحصلون على رواتب فقط على حد زعمه.
وقال في مناسبات أخرى وعقب وقوع حوادث قطارات كارثية إن "الإخوان موجودون في السكك الحديدية وعددهم في تزايد .. ونريد قانونا لاستبعادهم".
وفي مناسبة ثالثة أكد وزير النقل أنه سيتم خلال الفترة المقبلة إجراء استبعاد جميع عناصر الإخوان من الوظائف الحرجة والخطيرة، والبالغ عددهم 268 إخوانيًا.
القانون يمثل مخالفة صريحة لأحكام الدستور الذي نص على "عدم التمييز بين المواطنين أمام القانون بسبب الانتماء السياسي أو لأي سبب آخر".
بل ويمثل مخالفة لكل أعراف حقوق العمال وضربا بالقوانين التي تحظر فصل موظف تعسفيا أو فصل بغير الطريق التأديبي، ولا يفرق كثيرا عن المكارثية والقوانين التي أقرها وطبقها هتلر وموسيليني وغيرهم من الأنظمة التي كانت تحاسب الناس على نواياها، لا عن أفعالها.
إقرار القانون الجديد يتيح للحكومة اصطياد عدة عصافير بحجر واحد، فعبره يتم تقليص عدد موظفي الجهاز الإداري للدولة، وهو أحد مطالب صندوق النقد الدولي.
وعبر القانون يتم تضييق الخناق أكثر على المنتمين لجماعة الإخوان، وتجفيف مصادرهم المالية وقطع أرزاقهم والتنكيل بأسرهم وحرمانهم من وظائفهم، ومن خلال القانون الجديد يتم تهديد أي موظف معارض لسياسات النظام الحاكم بالفصل من وظيفته.