تحيط دائرة الانكماش بالاقتصاد الألماني، بعد سنوات من تيبس النمو بفعل تراكمات جائحة كورونا وأزمة الطاقة الناجمة عن الحرب الروسية في أوكرانيا، وباتت بعض الصناعات تواجه أوقاتاً صعبة، بينما تزداد مخاوف الألمان وكذلك الأوروبيين الذين ينظرون إلى ألمانيا على أنها قاطرة القارة العجوز، من اتساع الأضرار بفعل تعطل سلاسل التوريد نتيجة اضطرابات البحر الأحمر.
وأظهرت الأرقام الأخيرة الصادرة عن مكتب الإحصاء الفيدرالي الألماني في منتصف يناير/ كانون الثاني الجاري، انكماش الاقتصاد على أساس سنوي في 2023 بنسبة 0.3%. وتأتي هذه الأرقام بينما لم يحقق الاقتصاد على مدار السنوات الأربع الماضية نمواً بأكثر من 1%، وهو أدنى معدل نمو منذ إعادة توحيد شطري البلد (الشرقي والغربي) في بداية تسعينيات القرن الماضي.
وكبلت فاتورة جائحة كورونا المتضخمة الاقتصاد الألماني، فضلا عن أزمات التضخم وارتفاع أسعار الفائدة والطاقة، وبعد توقف تدفق الغاز الروسي الرخيص عبر "نوردستريم 1و2"، منذ الحرب في أوكرانيا قبل نحو عامين، يعيش مجتمع الأعمال الألماني حالة عدم ثقة بتوقعات النمو.
سكين التقشف
ويواجه المستشار الألماني أولاف شولتز، مع ائتلافه الحاكم، مشاكل جمة مع الشارع الذي بدأ يتذمر ويدعو من خلال احتجاجات، آخرها من خلال آلاف الجرارات الزراعية في العاصمة برلين بسبب سياسات التقشف المنوي انتهاجها. فما يسمى "سكين التقشف" الذي كشفته الموازنات المالية للعام الحالي 2024 يعزز النظرة السلبية إلى أقوى اقتصادات القارة الأوروبية، وخاصة منطقة اليورو.
عاشت حكومة شولتز في الأيام الأخيرة من العام الماضي أصعب أوقاتها بنذر تفكك الائتلاف الحاكم على خلفية تبني قوانين مالية للعام 2024، وبالكاد توصلت الأحزاب الحكومية لاتفاق يجسر الهوة بين مواقفها، حتى جاء مطلع العام بأنباء غير سارة للشارع بشأن الانكماش و"سكين التقشف" الذي يزيد متاعبه تراجع الواردات، بسبب الأزمة في سلاسل التوريد. واضطرار المليادير الأميركي إيلون ماسك إلى وقف إنتاج سيارات تسلا الكهربائية في البلد مجرد مؤشر إلى المتاعب.
صحيح أن أزمة الاقتصاد الألماني ليست جديدة، بل تفجرت معالمها في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي حين رفضت المحكمة الدستورية الألمانية في كارلسروه استخدام نحو 60 مليار يورو (نحو 1.5% من الناتج الإجمالي المحلي)، كإعانات صناعية وتعزيز مبادرات متعلقة بالتحول الأخضر المناخي، حيث استأنف الاتحاد الديمقراطي المسيحي القرار أمام المحكمة لمنع الخطة التي كان يعمل عليها وزير المالية كريستيان لندنر.
وتراقب القطاعات الصناعية المختلفة عمل الحكومة بكثير من عدم اليقين الاقتصادي، ورؤيتها بأن ذلك يقوض النمو، مع تراكم أزمة الطاقة وتباطؤ الاقتصاد العالمي الذي تتأثر به ألمانيا بصورة واضحة، هذا إلى جانب أن التضخم وأزمة الواردات والصادرات الناشئة في البحر الأحمر تزيد المتاعب.
تقدم الأزمة الألمانية نموذجاً أوضح لما تعيشه اقتصادات القارة العجوز، باعتبارها مع فرنسا القاطرتين الرئيستين في قطار الاقتصاد الأوروبي. ويحاول شولتز كبح التراجع من خلال خطط لتقييد الديون، بفرض ضرائب أعلى على أصحاب المداخيل المرتفعة، وعلى المواريث الكبيرة.
بينما يعتبر ليندنر وحزبه "الديمقراطيين الأحرار" في حكومة الائتلاف أن ذلك يمس بتوجههم الليبرالي. ومع ذلك يقترح وزير المالية ليندنر خطط تدابير تقشف صارمة، ما أدى وفقا للاستطلاعات الأخيرة إلى تراجع في شعبية الأحزاب الحاكمة (الاجتماعي الديمقراطي والليبراليين وحزب الخضر).
المشكلة في برلين أن السياسة الألمانية ملزمة منذ 2009 بكبح الديون، بحيث لا ينبغي أن يكون هناك عجز يزيد عن 0.35% من الناتج المحلي الإجمالي، لكنه الآن يزيد عن ذلك بعد أربع سنوات من أزمة كورونا والتضخم وأزمة الطاقة بعيد الحرب في أوكرانيا.
ودار النمو حول الصفر على الأقل خلال 4 سنوات ماضية، لتقع ألمانيا حالياً في أسفل جدول النمو الغربي، وهو بالطبع اقتصاد كبير مقارنة بنمو اقتصاد الدنمارك البالغ نحو 8% منذ 2019. ومع أن معدل التوظيف في ألمانيا ينمو منذ 2019، إلا أنه أسوأ مثلا من معدلات التوظيف الأخرى في منطقة اليورو ككل، إذ في فرنسا ارتفع المعدل بنسبة كبيرة إلى نحو 6%.
وشكلت حزم كورونا نحو 8% من الناتج الإجمالي الألماني، بينما في متوسط الاتحاد الأوروبي لم تتجاوز 4%. فقد أنفقت ألمانيا حوالي 158 مليار يورو كمساعدات تضخم، وهو ما يعادل نحو 29% من إجمالي مساعدات الاتحاد الأوروبي لكبح التضخم.
ومع ذلك لم تؤد عمليات الصرف لإبقاء الشركات والأسر واقفة على قدميها إلى تحقيق تقدم اقتصادي في ألمانيا. ويخشى الألمان، بسبب الذاكرة الجماعية التي تعيش على صدمة وطنية من أزمة الدين العام في عشرينيات القرن الماضي، من استمرار حالة التضخم والقضاء على مدخراتهم.
تسعى برلين جاهدة، منذ بداية الألفية الحالية، إلى مجاراة الرقمنة الأوروبية، حيث بلغ متوسط الاستثمار العام في البلد 2.3% من الناتج الإجمالي، بينما في بلد مثل الدنمارك الصغيرة وفرنسا الكبيرة وصل على التوالي إلى 3.2% و3.8%، ما يعني أن ألمانيا تواصل أزمتها مع الرقمنة والبنية التحتية المادية.
واستمرار انخفاض الاستثمارات لفترة زمنية طويلة يعني خفضاً للنمو واستنزافاً يضعف فرص النمو المتاحة للاقتصادات.
على المستوى الأوروبي فإنه من الصحيح وجود تفاوت بين دولة وأخرى حيال التضخم وارتفاع الأسعار الاستهلاكية، وذلك من خلال مساع لصناديق التعافي الأوروبية لتخفيف مشكلة التضخم في بلدان جنوب القارة، إلا أن حالة ألمانيا تبقى مثيرة للانتباه والتفحص الأوروبي.
مشاكل أخرى مترابطة
وتظهر دراسة عن معهد كييل للأبحاث الاقتصادية في ألمانيا، اطلعت عليها "العربي الجديد"، ملامح نشوء اختلال تجاري بين برلين وبكين بعدما استثمرت العديد من الشركات الألمانية في الإنتاج في الصين ولأجل الصادرات إليها. ويشير المعهد إلى أن الناتج الإجمالي الألماني سينخفض بنسبة 5% في حال حدوث ذلك الاختلال.
ويتأثر قطاع صناعة السيارات الكهربائية بصورة خاصة بمساع صينية دؤوبة إلى ريادة تخلّف عواقب سلبية على أجزاء أخرى من عالم الأعمال على مستوى ألمانيا وأوروبا، وما يتركه من تأثير على برلين اختيار القارة العجوز الدخول في حرب تجارية مع بكين، التي تسير أمورها في البحر الأحمر بصورة سلسة ومختلفة عما يواجهه الغربيون.
ورغم أن أزمة الواردات والصادرات عبر البحر الأحمر ليست العامل الحاسم على مستوى التراجع في الاقتصادات الأوروبية، إلا أنها عامل مهم على المستوى القريب في قياس صحة هذه الاقتصادات.
فالتوقعات الاقتصادية لألمانيا ليست صحية للعام الحالي 2024، وفقا لقراءة مركز الأبحاث الاقتصادي "آي دبليو اتش" في ألمانيا، الذي يتوقع نمواً أعلى قليلاً من الصفر. ويتوقع المركز تحسن القوة الشرائية بصورة طفيفة، وإذا ما تحسن النمو العالمي إجمالاً فمن الممكن تحسن الصادرات، ولكن ذلك مرهون بحل مشكلة العبور عبر البحر الأحمر.