استمع إلى الملخص
- **تحديات واستجابات أصحاب الأعمال**: يواجه أصحاب المشاريع صعوبة في العثور على بديل للعمالة السورية، مما أدى إلى تراجع الإنتاجية وزيادة التكاليف، مع احتمالية سد النقص بعمالة من دول أخرى بتكاليف أعلى.
- **الاستثمارات السورية في تركيا**: استثمارات رجال الأعمال السوريين تجاوزت 10 مليارات دولار، مما وفر فرص عمل كبيرة، لكن موجة الهجرة الأخيرة أثرت على بعض المنشآت.
تعكس البيانات الرسمية التركية حول عدد السوريين المغادرين، مدى الآثار التي بدت واضحة على سوق العمل في العديد من القطاعات الزراعية والإنتاجية والتجارية في البلد، لاسيما المشاريع المتوسطة والصغيرة التي كانت تعتمد على العمالة السورية الأقل تكلفة من حيث الأجور، ما قد ينعكس على أنشطتها في الفترة المقبلة، بينما يقلل محللون اقتصاديون أتراك تداعيات هجرة السواعد السورية، مؤكدين أنه تمكن الاستعاضة عنهم بالأتراك الذين تسجل البطالة ارتفاعاً بينهم، لكن ذلك سيكون وفق آخرين أعلى كلفة على أصحاب الأعمال.
يشير سمير العبد الله رئيس قسم التحليل في مركز حرمون للدراسات المعاصرة ومقره إسطنبول، إلى أن هناك معامل توقفت بالفعل عن الإنتاج في بعض الولايات التركية، بعد العودة الكبيرة "طوعاً أو قسراً" للسوريين من تركيا، سواء إلى داخل سورية نحو مناطق سيطرة المعارضة والنظام، أو الهجرة عبر غياهب البحر، إلى أرض الأحلام الأوروبية. فرحيل هذه الأعداد عن تركيا برأي العبد الله، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أدى إلى نقص حاد في العمالة الرخيصة، ما ترك أثراً واضحاً على المشاريع المتوسطة والصغيرة، لا سيما في القطاعات الصناعية مثل الورش في إسطنبول والمدن الكبرى، حيث كان السوريون يشكلون نسبة كبيرة من القوى العاملة في هذه القطاعات، وكانوا يؤدون وظائف تتطلب جهداً بدنياً كبيراً مقابل أجور منخفضة.
ومع رحيلهم، بدأت هذه المشاريع تواجه تحديات كبيرة في العثور على بديل مناسب، خصوصاً في ظل عزوف الأتراك عن العمل في هذه المهن الشاقة التي لا تتماشى مع تطلعاتهم في ما يتعلق بالأجور وظروف العمل. وحول القطاعات التي طاولتها تداعيات هذه الهجرة، يضيف الباحث العبد الله أن آثار نقص العمالة السورية، امتدت لتشمل قطاعات حيوية أخرى مثل الزراعة والبناء، حيث إن هذه القطاعات تعتمد بشكل كبير على العمالة غير الماهرة أو ذات المهارات المحدودة، هذا النقص تسبب في تباطؤ ملحوظ في تنفيذ المشاريع وزيادة تكاليف الإنتاج، ما انعكس سلباً على الأسعار النهائية للمنتجات والخدمات.
ويرى أن أصحاب المشاريع في هذه القطاعات باتوا يعانون من تداعيات هذا الوضع، حيث يجدون أنفسهم مضطرين للتعامل مع تراجع في الإنتاجية وزيادة في التكاليف، وهو ما يهدد استمرارية بعض هذه المشاريع ويضعها أمام تحديات كبيرة للحفاظ على تنافسيتها وربحيتها "كل هذا يزيد من التحديات التي يواجهها الاقتصاد التركي الذي يعاني من التضخم".
في المقابل، يقلل الخبير الاقتصادي التركي، أوزجان أوصال في تصريح لـ"العربي الجديد" تأثر اقتصاد بلاده بتراجع أعداد السوريين وهجرتهم، والأسباب برأيه كثيرة، منها أن تركيا لم تزل محط استقطاب للأيدي العاملة في "دول الربيع العربي" مصر وليبيا واليمن، فضلاً عن الأفارقة الذين يتهافتون على تركيا بغرض الهجرة عبرها إلى أوروبا أو المكوث فيها والعمل بأي قطاع أو أجر، ريثما تتحين الفرصة للهجرة. لذا برأيه، "العمالة السورية لم تهاجر بالشكل الذي يصوره الإعلام كما أن غيرها من العمالة تسد النقص، وبالتالي لم تظهر تلك الآثار الكبيرة على القطاعات الاقتصادية، باستثناء ولاية قيصري بعد الأحداث الأخيرة التي شهدتها وتغيير السوريين مكان إقامتهم أو بعض الأعمال الزراعية في ولايات جنوب تركيا".
كانت ولاية قيصري وسط تركيا قد شهدت في يوليو/تموز الماضي، أعمال شغب وسلسلة اعتداءات وتدمير وإحراق جماعي استهدفت ممتلكات سوريين، على خلفية انتشار أخبار مغلوطة تتعلق بتعدي شاب سوري الجنسية على طفلة تبلغ من العمر 5 سنوات.
ويلفت أوصال بحديث لـ"العربي الجديد" إلى أن بعض أرباب العمل في تركيا، يشغلون عمالة خارجية على رأسها السوريون من دون تسجيلهم بالتأمينات أو دفع ضرائب عليهم، ففي حين يعمل العامل السوري بنحو 20 ألف ليرة، لا يعمل التركي، ذات العمل، بأقل من 30 ألف ليرة (الدولار يعادل 33.55 ليرة تركية).
ويرى المحلل الاقتصادي التركي أن للعمالة الخارجية دورا في ارتفاع نسبة البطالة في تركيا إلى أكثر من 9% خاصة في القطاعات الكبيرة مثل الألبسة، الزراعة، المنتجات الجلدية، الأغذية والعقارات. لكنه يقر بأن العامل التركي لا يعمل بأجر العمالة الوافدة، قائلا إن "هذا حقه نظراً للتضخم وغلاء الأسعار"، معتبراً أن الأجر العادل للعامل يجب ألا يقل عن 30 ألف ليرة. في المقابل يتقاضى معظم السوريين الحد الأدنى للأجور البالغ 17 ألف ليرة تركية. ويقول أوصال عن هذا الموضوع: "أقر باستغلال حاجة السوريين من أرباب العمل ولكن هذا ليس ذنب العامل التركي ليعاني من البطالة أو يعمل بأجر زهيد".
وبين هذا الرأي وذاك، ثمة واقع على الأرض والأسواق، بدأت آثاره تتعاظم بالتوازي مع عودة السوريين الذين تقدرهم، جهات رسمية تركية بمئات الآلاف خلال الأعوام الأخيرة، وارتفعت موجه الهجرة، عبر تركيا إلى أوروبا وحالات العودة "طوعاً تحت الضغوط الأخيرة في تركيا" إلى سورية، هذا العام بسبب ارتفاع موجة العنصرية واستهداف السوريين إثر أحداث ولاية قيصري.
وقال وزير الداخلية التركي، علي يرليكايا، خلال اجتماع تقييمي عقده مع ممثلي المؤسسات الإعلامية في أنقرة الشهر الماضي، إن "عدد السوريين العائدين من تركيا إلى بلدهم تجاوز 650 ألف شخص". فقد عاد 103 آلاف و45 سورياً إلى بلادهم طوعا خلال العام الماضي، وبلغ العدد الإجمالي للعائدين في الفترة ما بين 2016-2024 ما مجموعه 658 ألفا و463 سوريا.
ويشير وزير الداخلية التركي إلى أن هناك 3 ملايين و114 ألفا و99 سورياً تحت الحماية المؤقتة المعروفة في تركيا بـ"الكملك". وعن السوريين الحاصلين على الجنسية التركية، فقد سبق أن كشفت وزارة الداخلية التركية، نهاية العام الماضي، عن إجمالي عددهم منذ بداية استضافة تركيا لهم في أعقاب اندلاع الأزمة السورية عام 2011. ووفق تصريحات وزير الداخلية، فإنه حتى ديسمبر/كانون الأول 2023، حصل 238 ألفا و55 سورياً من الخاضعين للحماية المؤقتة على الجنسية التركية بشكل استثنائي.
يكشف المشرف على آلات صناعة النسيج والألبسة في منشأة "بالبن تكستيل" في منطقة بيرم باشا في إسطنبول الذي فضل تعريف نفسه باسم "هوسين" وهو سوري حاصل على الجنسية التركية، أن عدد العمالة تراجع بعد موجات ملاحقة السوريين، الأمر الذي أدى لتراجع الإنتاج بين 40% و50% خلال العام الأخير "بقيّ لدينا 4 عمال سوريين فقط". ولا ينكر المتحدث خلال حديثه لـ"العربي الجديد" الأثر الكبير الذي خلفه ترك السوريين العمل "لخوفهم من الذهاب للعمل بسبب الملاحقة أو لامتناع رب العمل عن استصدار تأمين وضمان اجتماعي لهم"، معتبرا أن "كثيرا من الورش أو المعامل الصغيرة، أغلقت بشكل كامل لأن عمالتها كانت من السوريين ولم يكن رب العمل يتحمل أعباء التأمينات "في حال تم تسجيل العمال جميعهم قد تتلاشى الأرباح" لذا كان خيار الإغلاق هو الأنسب لبعض الورشات.
في السياق، يقول السوري عبد المجيد عاشور صاحب منشأة "النور" للغذائيات في منطقة الفاتح في إسطنبول لـ"العربي الجديد" إن عمالته تراجعت 50% خلال الأشهر الأخيرة "بعد ملاحقة السوريين وعودتهم"، الأمر الذي رفع الأجور بين 50% و60%. ويضيف: "أبحث عن عمالة متخصصة اليوم بأربعين ألف ليرة ولا أجد، في حين كان متوسط الأجور بين 20 و30 ألفاً حسب التخصص". ويتوقع أن تلمس الدولة التركية نقص العمالة الأقل كلفة سواء على صعيد الإنتاج والعرض السلعي أو على مستوى الصادرات التي تعول عليها تركيا لتوازن سعر الليرة. ويلفت صاحب منشأة الغذائيات عاشور إلى هجرة "كثير من الرساميل" باتجاه مصر ودول أفريقية أخرى، والأهم سلطنة عمان هذا العام، بعد الترويج والتسهيلات بمنح ترخيص للمنشآت أو منح الإقامة للسوريين.
ويرى المحلل التركي، يوسف كاتب أوغلو أن "أحداث قيصري المدبرة" في 30 يونيو/ حزيران الماضي، كانت "ربما الفيصل" إذ زادت مخاوف السوريين، في قيصري وغيرها من المناطق التركية، وزاد استغلال الحدث من بعض الأحزاب التركية، لممارسة العنصرية، فرأينا اعتداءات على محلات تجارية لسوريين وحرقها ومهاجمة سياراتهم وممتلكاتهم، ما أثر على الجميع، العمال السوريين وأصحاب المنشآت بعد التزام العمال منازلهم وعدم خروجهم للعمل لأيام متتالية.
لكنه يشدد على ضرورة "الاعتدال بالنظرة والرأي، فصحيح أن نقول إن الاقتصاد التركي تأثر بهجرة العمالة السورية، ولكن ليس صحيحاً أن نقول إنه سينهار وفق ما يصور البعض، لأن سوق العمل بتركيا تعاني من وفرة، من دون أن ننكر مهارة السوريين وقبولهم بأجور أقل من الأتراك". ويقول: "فعلاً توقفت معامل (منشأت إنتاجية) كثيرة في ولاية قيصري عن العمل خلال استهداف السوريين، لاسيما أن هناك نحو 35 ألف عامل سوري يعملون في المنطقة الصناعية بهذه الولاية فقط، حيث تضم المدينة الصناعية في قيصري نحو 1600 مصنع وتشكل العمالة السورية فيها أكثر من 25%".
ويلفت كاتب أوغلو إلى أن السوريين في تركيا "ليسوا عمالاً فقط" بل تبوأ السوريون وعلى مدى خمس سنوات، المرتبة الأولى بالأكثر استثماراً بين الأجانب. ويقر بهجرة بعض الرساميل السورية وإغلاق بعض المنشآت "لكنها لم تصل إلى حد الظاهرة بعد".
وكانت صحيفة "Turkiyegazetesi" قد نقلت أخيراً عن رئيس جمعية رجال الأعمال والصناعيين العرب، (أسياد)، عبد الغفور صالح عصفور، أن استثمارات رجال الأعمال السوريين في تركيا تجاوزت 10 مليارات دولار. وأضاف عصفور، أن رجال الأعمال السوريين، منفردين أو بالتشارك مع الأتراك، وفروا ما بين 450 إلى 500 ألف فرصة عمل في تركيا، وهناك 3 آلاف رائد أعمال سوري مسجل في غرفة التجارة في مدينة غازي عنتاب وحدها، كما توجد 101 شركة في غرفة الصناعة و1445 شركة مسجلة لدى رابطة مصدري جنوب شرق الأناضول.
وأشار رئيس جمعية رجال الأعمال والصناعيين العرب إلى دور رجال الأعمال السوريين في تنشيط الصادرات التركية بالقول إن "التجار القادمين من حلب يحافظون على علاقاتهم مع الدول الأوروبية والآسيوية، وخاصة الدول العربية" مقدراً صادراتهم بأكثر من 500 مليون دولار. ووفقًا لإحصائيات وزارة العمل والضمان الاجتماعي التركية، بلغ عدد السوريين الحاصلين على تصاريح عمل منذ عام 2011 وحتى العام الماضي حوالي نصف مليون تصريح.