حينما دعا كبار المسؤولين عن إدارة السياسة النقدية في مصر، وفى مقدمتهم محافظ البنك المركزي هشام رامز، جموع المصريين الغفيرة إلى الزحف نحو البنوك ومصلحة البريد للاكتتاب في شهادات استثمار قناة السويس الجديدة، باعتبارها مشروعا قوميا وسياديا لا يجوز لغير أبناء الوطن تحمل تكلفته، كانت النتيجة اكتتابات فاقت 64 مليار جنيه "نحو 9 مليارات دولار"، بزيادة 4 مليارات جنيه عن المبلغ المطلوب.
وحينما دعا هؤلاء المسؤولون المصريين إلى التدفق على المصارف وشركات الصرافة للتنازل عما في حوزتهم من دولار ونقد أجنبي، والقضاء على السوق السوداء للعملة التي تربك الاقتصاد، وترفع الأسعار، وتزيد أعباء الدين العام، كانت النتيجة صفراً.
الدعوة الأولى انطلقت بداية شهر سبتمبر/أيلول الماضي، وصاحبتها حملة إعلامية غير مسبوقة، حثت المصريين على الاكتتاب في شهادات استثمار مشروع قناة السويس القومي والتاريخي، الذي شبهه الإعلام بالسد العالي، وأنه سيجلب الخير لمصر، وسيدرّ على خزانة الدولة 100 مليار دولار سنويا، وهذا الرقم كاف لسداد الديون الخارجية، وتغطية كلفة الواردات لمدة عام.
أما الدعوة الثانية، فقد انطلقت هذه الأيام، ولعبت أيضا على الوتر العاطفي والقومي وحب مصر، حيث ناشد محافظ البنك المركزي المصريين ألا يبيعوا الدولار في السوق السوداء، باعتباره واجبا وطنيا؛ لأن هذا يضر بالاقتصاد في هذا الوقت الدقيق من تاريخ بلدنا، وكانت النتيجة صفرا حيث واصل سعر الدولار ارتفاعه أمام الجنيه المصري، كما اشتعلت المضاربات في السوق السوداء التي باتت الشغل الشاغل للمصريين.
السؤال المطروح هنا: لماذا نجحت الدعوة الأولى المتعلقة بشهادات قناة السويس، وفشلت الثانية المتعلقة بالسوق السوداء بامتياز.؟، رغم أن اللغة المستخدمة واحدة، وهي حب الوطن ومساندته في هذه اللحظة الصعبة، كما تم استخدام نفس الأدوات الإعلامية من فضائيات وصحف، بل ونفس الكتاب والمذيعين الذين روجوا لشهادات قناة السويس.
الإجابة هي المصلحة أولاً، فالمصريون وجدوا في شهادات قناة السويس فرصة استثمارية جذابة ولا تعوض، فالشهادات تمنح سعر فائدة 12% سنويا، وهو ما يزيد عن الأسعار السائدة في البنوك بنحو 5%، كما يتم صرف العوائد خلال 3 شهور فقط وليس عقب الانتهاء من تنفيذ توسعة القناة، وبالتالي تكالبوا على الشهادات بشكل غير مسبوق لحصد مزيد من الأرباح، ليس الا.
وفى المقابل لم يستجب المصريون للدعوة الثانية المتعلقة بالتكاتف للقضاء علي سوق الصرف المضطرب والسوق السوداء؛ لأن الاستجابة تعني تعرّضهم لخسائر مالية مباشرة، فحب الوطن لن يدفع المصريين أصحاب الأموال إلى بيع الدولار بـ 7.15 جنيهات للبنوك، في حين يمكنهم بيعه في السوق السوداء بـ 7.85 جنيهات، أي أن الفارق 70 قرشا في الدولار الواحد.