بينما يستعد العالم لاستقبال موجة جديدة أو تحورات جديدة لفيروس كورونا، لا يعرف أحد مدى قوتها أوعدد ما ستجنيه من أرواح، ربما يكون من المفيد الوقوف عند بعض الحقائق التي ظهرت في عالمنا العربي خلال الخمسة عشر شهراً الأخيرة، تمثل تقريباً كلّ علاقتنا بالفيروس منذ بداية انتشاره في المنطقة.
جاء التأثير الأكبر على اقتصادات أغلب الدول العربية من خلال أوامر الإغلاق التي تم فرضها في أعقاب اكتشاف سرعة انتشار الفيروس حول العالم، الأمر الذي تسبب في تراجع إيرادات السياحة الترفيهية والدينية فيها.
وبسبب ما تمثله تلك الإيرادات من تأثير مزدوج على اقتصادات الدول المستقبلة للسياح، بالتأثير في الناتج المحلي الإجمالي وفي إيرادات العملة الأجنبية الواردة للبلاد.
فقد تسبب تراجعها، ضمن أسباب أخرى، في انهيار العملة اللبنانية وفقدانها أكثر من 90% من قيمتها وتخلف الحكومة عن سداد ديونها، كما لجوء مصر إلى صندوق النقد الدولي وأسواق السندات الدولية لتعويض ما يقرب من 13 مليار دولار إضافية كانت الحكومة المصرية تنتظرها من النشاط، بالإضافة إلى تردي الأوضاع الاقتصادية في تونس بصورة ربما تؤثر على مستقبل الديمقراطية الناشئة في البلد الذي ظهرت فيه أولى بشائر رياح التغيير العربية.
ولم يقتصر التأثير السلبي لتراجع إيرادات السياحة على الدول منخفضة الدخل فقط، بل سبب ارتباكاً كبيراً أيضاً في ميزانيات كلّ من السعودية والإمارات، اللتين تصدرتا ترتيب الدول العربية في عدد السياح الآتين للبلاد قبل ظهور الفيروس.
وبالإضافة إلى الضربة المزدوجة للناتج المحلي الإجمالي وإيرادات العملة الأجنبية، يؤثر تراجع السياحة الواردة في العديد من القطاعات الأخرى، مثل الطيران والفنادق والمطاعم والمقاهي والاتصالات ومبيعات التجزئة، الأمر الذي يضاعف من التأثير السلبي لتراجع هذا القطاع خلال الفترة الماضية.
ومع تراجع السياحة بصورة كبيرة، وتدني أعداد المسافرين حول العالم، انخفض الطلب على النفط حتى وصل سعره، إلى أقل من عشرين دولاراً للبرميل لفترة وجيزة، قبل استقراره حول سعر أربعين دولاراً للبرميل لأغلب فترات العام الماضي.
ووفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي، كانت السعودية تحتاج لوصول سعر البرميل إلى 78 دولاراً، والإمارات 68 دولاراً، لتحقيق توازن ميزانياتهما في عام 2020، وأقل قليلاً في عام 2021، بينما تحتاج دولٌ مثل ليبيا والبحرين والجزائر سعراً أعلى من ذلك بكثير.
فقد كثيرون في الدول العربية وظائفهم بعد تراجع السياحة والقطاعات المرتبطة بها، وانهيار أسعار النفط وإيقاف الحج والعمرة، كما انخفضت ساعات عمل العمالة المؤقتة التي لم تفقد وظائفها.
وأظهرت بعض الدراسات الميدانية أنّ أعداداً كبيرة من العاملات في المجال الصحي الذي حافظ على وظائفه بسبب الجائحة كن من أصحاب الدخول شديدة الانخفاض في أغلب الأحيان، على الرغم من ارتفاع درجة مخاطر إصابتهن بالوباء القاتل، وأنّهن اضطررن إلى ترك أطفالهن في المنازل بلا رعاية بعد إغلاق المدارس لفترات طويلة.
وتسبب انخفاض مستوى معيشتهن في تراجع قدرتهن على الحصول على الخدمات الصحية، كما الخدمات التعليمية التي تحول جزء كبير منها إلى الإنترنت. وتشير بعض الإحصاءات إلى أنّ رجال الوطن العربي فقدوا خلال الأزمة نحو مليون وظيفة، بينما خسرت النساء ما يقرب من سبعمائة ألف، بخلاف الوظائف غير الرسمية التي ليست لها إحصاءات يمكن الوثوق بها.
وبالإضافة إلى النفط الذي تراجع الطلب عليه وانخفض سعره، تراجعت صادرات أغلب الدول العربية من المواد الخام والسلع الوسيطة، كما الخضر والفاكهة والأقطان، بصورة تفوق تراجع واردات تلك الدول، الأمر الذي تسبب في اتساع عجز الميزان التجاري في أغلبها.
ومع هروب مليارات الدولارات من الاستثمار غير المباشر في العديد من بلدان المنطقة خلال الأزمة الصحية، ازداد الضغط على الحسابات الجارية لديها، فانخفض احتياطي النقد الأجنبي لدى الواقعي منها، بينما ارتفع الدين الخارجي لدى من يهوون خداع شعوبهم. واقترضت بعض الدول مليارات الدولار لمعالجة آثار الأزمة، إلّا أنّها لم تنفق أكثر من ثلثها على المواطنين وخدماتهم.
وبعدما نجحت تلك الدول في إقناع المؤسسات الدولية باحتياجها الشديد للمساعدات المالية، تم إنفاق الجزء الأكبر مما حصلت عليه منها على الشركات لا الأفراد، حتى أن بعضها استخدمها في شراء أسهم بعض الشركات التي انخفضت أسعارها في بداية الأزمة، بينما لم يتجاوز تعويض الملايين من المواطنين الذين فقدوا وظائفهم 35 دولاراً شهرياً، ولفترات محدودة.
وخلال الفترة بين مارس/ آذار وأغسطس/ آب من العام الماضي، ارتفعت ثروات مليارديرات الوطن العربي بما يقرب من 10 مليارات دولار، تمثل أكثر من ضعفي ما حصلت عليه المنطقة من تمويل من صندوق النقد الدولي لمواجهة آثار الكارثة.
تحول متوسط فائض ميزانيات دول المنطقة مجتمعة، الذي بلغ 5.6% من دخلها القومي في عام 2012 إلى عجزٍ بنسبة 9.8% في عام 2020، وارتفعت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي من 35% في 2019 إلى 46.6% في 2020، وبلغت في بعض الدول أكثر من 120%.
الأزمة التي تعرضت لها الدول العربية لم تحدث بين عشية وضحاها، وإنما كانت نتيجة تراكم سنوات من عدم المساواة بين دول المشرق والمغرب، وبين أغنياء وفقراء نفس البلد، وبين سكان الريف والحضر داخله. فهل تكون الجائحة بوابة عبور من عالم ظالم، إلى عالم أكثر عدلاً وعقلاً؟