تتناول الحلقة الثانية من سلسلة "كيانات مفترسة" تاريخ التنافس الطويل بين شركتي كوكا كولا وبيبسي الأميركيتين، وكيف خدم مصالحهما المشتركة في التمدد. نقرأ ذلك على ضوء دعمهما الدائم لإسرائيل*.
تماماً مثل دول كثيرة لا تتورّع عن كشف دعمها اللامشروط لإسرائيل، تقف شركات وعلامات تجارية عالمية لتقوّي شوكة دولة الاحتلال في حربها على الفلسطينيين. فمن أجل المصالح الاقتصادية لا يرفّ جفن لهذه الشركات، وهي تدوس القيم الإنسانية دون رحمة.
وكما فعلت الإمبراطوريات في القرن التاسع عشر، قسّمت هذه الشركات عالم اليوم بينها، فجعلته مثل حوانيت تبيع كلّ شيء: المأكل والمشرب والزينة والصحة والرفاهة والترفيه (...). وحين نراها تنحاز بشكل سافر ضدّ الحق الفلسطيني، نفهم كم نحن محاصرون من كل جانب.
لم تكن الحرب على غزة إلا مناسبة جديدة كي تسقط الأقنعة الملوّنة التي ترتديها الوحوش. مناسبة كي نعود إلى تشكّل هذه الشركات وتطوّرها وأسباب قوتها، والأدوار التي تلعبها معنا وضدّنا: تؤمّن من جهة كل حاجاتنا، ومن جهة أخرى تُغرقنا في ثقافة الاستهلاك وتناصر الطغيان والظلم وتدمّر الكوكب.
حين تتأمّل هذه السلسلة مسارات الشركات التي تصنع كل شيء حولنا، إنما هي تتأمّل كيف تتشكّل حياتُنا، كيف تتحوّل المنتجات إلى أطواق حول أعناقنا. "من لا يتحرّكون، لا يلاحظون أغلالهم"، قالت روزا لوكسمبورغ منذ قرن تقريباً، وكذلك من لم يُقصف إخوانهم لن يشعروا بالألم الذي طالما خدرته الملذات.
تحتاج الشركات الكبرى إلى استدامة دائرة الاستهلاك وتخدير الشعور إلى ما لا نهاية، وبعد ذلك علينا ألا نستغرب أن يغفل عالم المال -أو يتغافل- عن حقيقة الجريمة الصهيونية في فلسطين. كيف يمكن التعايش مع كيانات تحوّلت إلى وحوش تمزّق بأسنانها اللحم البشري، وتعمل على تنويمه في ذات الوقت، ويحدث أيضاً أن تذرف الدموع... لكن على المُعتدين!
رغم أن قطاع المشروبات الغازية ليس ضمن الصف الأوّل من القطاعات الاقتصادية، على الأقل مقارنة بصناعات مثل الطاقة والسيارات والتكنولوجيات الرقمية والأدوية والملابس، إلا أن شركتي كوكا كولا وبيبسي تأخذان دائماً موقعين أساسيين في الصورة الذهنية المرسومة للشركات العابرة للقارات، ربما بسبب استراتيجية الظهور القوي على شاشة الإعلانات والاشتغال على حضور ما يُنتجانه في كل مكان في العالم. موقع متقدّم آخر تظهر فيه الشركتان باستمرار، إذ لا تغيبان عن قوائم المؤسسات التي تعلن دعمها لإسرائيل.
توأم دون أن يكونا أخوين
في الظاهر، فإن كوكا كولا وبيبسي مؤسستان متنافستان ومتحاربتان، لكن إذا أمعنّا النظر سنراهما مثل نسختين للشيء نفسه، إلا في بعض الاختلافات غير الجوهرية، مثل الألوان، فالأولى اختارت اللون الأحمر والثانية جعلت من اللون الأزرق هويّتها.
ألا يثير انتباهنا هنا أنهما اختارا نفس اللونين اللذين يتبناهما الحزبان المتصارعان في الولايات المتحدة، وتماماً كما أن الاختيار بين الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي هو اختيار ليس على الجوهر بل على الشكليات، فإن الاختيار بين كوكا كولا وبيبسي ينطوي على نفس اللعبة.
حتى نقطة البداية متقاربة بين الشركتين، فقد انبعثت كوكا كولا عام 1886، فيما تأسست بيبسي بعد عامين. ظهر كلاهما حين اكتملت في أميركا أسباب الازدهار الاقتصادي، مع ترتيب السلام الداخلي بشكل نهائي بعد قوس الحرب الأهلية (1861-1865)، ووضع كل ما يحتاجه تكديس الثروة من بنى تحتية، وإلى ذلك تسوية كل معوقات ظهور مجتمع منخرط بالكامل في تحقيق اليوتوبيا الرأسمالية، ومن هذه المعوقات الانتهاء من إبادة سكان الأرض الأصليين أو هضمهم بشكل كامل في الآلة العملاقة.
تهيّأت لهذه الآلة ظروف أخرى مواتية، فالجغرافيا اللامتناهية توحي بأن التقدّم سيمضي إلى ما لا نهاية، ولا يوجد جيران مزعجون ومتربّصون بكل هفوة كحال الأمم الأوروبية، ما صنع جاذبية للحلم الأميركي على مستويين؛ عمالة تبحث عن فرص حياة أفضل من المتوفرة في بلادهم، وأصحاب مشاريع يبحثون عن دولة لا تقتسم الأرباح معهم باسم الضريبة والمصلحة العامة.
تأسست كوكا كولا نتيجة محاولات الصيدلي جون بمبرتون إيجاد طريقة شرعية في الربح من خلال تجارة المشروبات في ظل منع بيع الخمور في ولاية كارولينا الشمالية. كانت مشاركته في الحرب الأهلية فرصة ليلامس حاجيات الكائن الأميركي الذي يتشكّل تحت ضغط الأوامر العسكرية، والتي ستعوّضها لاحقاً التعليمات المهنية داخل المصانع الناشئة. يحتاج الأفراد الذين يُلقى بهم لتدوير هذه المنشآت الضخمة إلى ما يروّح على نفوسهم؛ لا مجال للعطش، وفوق طعم لذيذ وتأثير على الحالة النفسية بحيث يقبلون على الاستغلال الذي يتعرضون إليه بروح معنوية عالية.
وجد الصيدلي في نبتة الكوكا ضالته. مع تركيبة كيميائية معينة عرف كيف يخفّض شحنتها التخديرية ومع إضافة الماء الغازّي والسكريات يصبح لها تأثير تنشيطي على مدى قصير. كان ذلك كافياً كي يُقنع صاحب واحدة من أشهر صيدليات مدينة أتالانتا بأن يقدّم مشروبه لكل من يشكون من فتور في طاقتهم، وهو ما ينعكس على قدراتهم التنافسية في سوق العمل.
حقّق الصيدليان أرباحاً محترمة، ولكنها لم تكن شيئاً يُذكر مما سيأتي به المشروب من أموال، منذ أن ظهر رجل الأعمال، أسا غريغس كاندلر، الذي اشترى الوصفة من بمبرتون وسيجعل منها آلة أميركية جديدة لصناعة الثروة، بفضل الاستثمار في الدعاية التي لم تستند بادئ الأمر إلا على تصميم قوارير خاصة لـ"المشروب السحري".
في الأثناء، كان صيدلاني آخر في مدينة غير بعيدة، نيوبرن، يشتغل على نفس الفكرة، وعلى نفس نبتة الكوكا. ولقد وصل إلى نفس النتائج تقريباً لكن تجاربه أفضت إلى طعم مختلف. لو كانت قوانين التنافس التي وُضعت في القرن العشرين سارية وقتها لكان من الممكن أن يقتل قابيل أخاه وهو في المهد، لكن زمن البدايات أمدّ التوأم بكل شروط الحياة، فازدهرت تجارة كوكا كولا وبيبسي في آن واحد، وكيف لا وهناك مصلحة من كل الأطراف في استهلاك المشروب المُستحدث.
صحيح أن حروباً صغيرة قد اشتعلت منذ ذلك الزمن، لكنها كانت مجرّد تنافس على أسواق لم تكن أكثر من بضع مدن صناعية. تلك المعارك الصغيرة كانت لها آثار إيجابية فقد حفّزت على تفعيل الجانب الإعلاني لكي يكون هذا المنتج أو ذاك مرئياً أكثر، وكما أتت هذه السياسة بالمستهلكين جلبت مساهمين نقلوا المشروبات من الصيدلية إلى الإنتاج الصناعي.
سَحَرة استدرار الأموال
حين مرّ عقدان من ترويج المشروبات الغازية الجديدة، بدأ عامل الأسطرة الذي صاحب السنوات الأولى في الانقشاع. كما أن إلغاء منع تجارة الخمور في معظم الولايات الأميركية كان سبباً في نضوب السوق التي اختُرعت اختراعاً. مع هذا الوضع، كان لا بدّ من تغيير التكتيكات وإلا ذهبت أحلام نبتة الكوكا أدراج الرياح. وإلى جانب ذلك، أتت شركات جديدة إلى سوق المشروبات الغازية تعرض منتجاتها، وبعضها كان يقدّم نكهات وتلوينات جديدة لم تأت على بال جيل الصيادلة.
ولما كانت الشركتان قد تدرّبتا سابقاً على الأدوات الإعلانية، كانتا الأوفر حظاً للنجاة من الطوفان. ماتت المحاولات الجديدة، وبقيت كوكا كولا وبيبسي. لكن بات عليهما أن تعملا معا لإقناع المستهلكين بأن ما يبدو غير أولوي على سلم الحاجيات له من المنافع ما يجعلهم يقبلون عليه: أن تستهلك مشروبات الكوكا يعني أنك تعيش الحلم الأميركي واقعاً. يعني أن تنتمي إلى فضاء السعادة في كوكب الأرض. جرى تصوير المشروبات الغازية أيضاً كعنصر اندماج في "مجتمع النجاح".
وحتى حين تداعى كل الاقتصاد الأميركي مع انهيارات البورصة عام 1929، نجحت المشروبات الغازية في بناء سردية مضادة للاكتئاب الجماعي بأن أظهرت أن السعادة تكمن في البساطة ولا تحتاج إلى كثيرمن المال لتوفيرها، يكفي اقتناء هذا المشروب أو ذاك الامتلاكها لدقائق.
كانت أزمة 1929 موجعة للرأسمالية الأميركية، لكن إجراءات روزفلت الإصلاحية كانت موجعة أكثر بالنسبة لكثير من رجال الأعمال، فقد حارب الرئيس الاحتكارات من أجل إعادة الحياة للاقتصاد الأميركي. وفيما ضربت هذه السياسة ثروات كبرى في قطاعات مثل استخراج النفط والصناعات الميكانيكية، فإن الحرب المستعرة بين كوكا كولا وبيبسي نجتهما من تهمة احتكار السوق.
في تلك اللحظة أيضاً، نجحت الشركتان معاً في الحضور بقوة على مستوى الثقافة الجماهيرية عبر المساحات البصرية للفضاء العمومي ومن خلال السينما. باتتا بذلك تخاطبان المخيال الإنساني مباشرة وتفعّلان غرائزاً بعينها من أجل استدرار الأموال.
مرّة أخرى تتوسّع السوق، تتعدّد الشركات التي تصبو لاقتسام الكعكة، ثم سرعان ما تندثر لتبقى بيبسي وكوكا كولا مهيمنتين على القطاع باستمرار. بعد ذلك علينا أن نصدّق دائماً أن بيبسي وكوكاكولا متصارعتان. فإذا كانت هناك حرب حقاً بين بيبسي وكوكا كولا فلا يمكن أن نسمّيها إلا حرب الومضات الإعلانية.
حرب الومضات بين بيبسي وكوكا كولا
نجحت خطط الشركتين وتوسعت بتوسع الأحلام الأميركية. ضاقت السوق المحلية بصراع الأختين، وكما خرجت الولايات المتحدة من عزلتها بعد حربين عالميّتين، كانت كوكا كولا وبيبسي تتحسّسان الطريق إلى فضاءات أخرى. المسألة بسيطة نوعاً ما في المجتمعات الأوروبية الصناعية التي تتوفر فيها ظروف شبيهة بتلك الأميركية، إذ يكفي تفعيل نفس الخطاب الترويجي لينجح المشروب في غزو الأسواق.
كانت الومضات الإعلانية للمشروبات تهضم كل ما حولها. إنها بشكل ما موسوعة الرغبات التي استحدثها القرن العشرين: الموضة، تسريحات الشعر، السيارات الفارهة، الأجساد الأنثوية المثيرة... كل ما يلمعُ سرعانَ ما يُلقى به في فرن الومضات الإعلانية لكوكا كولا وبيبسي.
بلغت حرب الومضات الإعلانية أوجها بين الشركتين، في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين. إنه الزمن الذهبي للتلفزيون، وهو زمن انتصار الرأسمالية الحاسم. منذ أن يلمع نجمُ ممثل أو مغنٍّ أو لاعب كرة قدم، ستجده انخرط في سلسلة ومضات لهذا المشروب أو ذاك.
بدءاً من 1985، ظهر مايكل جاكسون في أكثر من ومضة إعلانية لبيبسي، وكان ذلك أضخم تعاقد في تاريخ الإعلانات لكن الشركة تُدرك جيداً أن العائدات مضمونة فهذه الخطوة كانت تُدمج الطيف الواسع لمحبّي فنان البوب الأشهر عالمياً بمنظومة استهلاك المشروب الغازي.
وفيما بدا أنه عقد أبديّ، مع النجاح الكبير للومضات الإعلانية التي ظهر فيها مايكل جاكسون ومقطوعاته الموسيقية، اضطرّت بيبسي لوقف التعاون معه في 1993، إثر توجيه تهم للمغني بالاعتداء جنسياً على أطفال. لكن البديل المناسب كان جاهزاً، فقد دُفع بنجم كرة السلة شاكيل أونيل إلى الشاشة لترويج منتجات بيبسي. ثم، في 2001 حين صعدت بريتني سبيرز على عرش نجومية أغنية البوب الأميركية أصبحت نجمة الإعلانات الجديدة للشركة، فلما تركت موقع الصدارة في السنوات التالية لمغنيات أخريات مثل شاكيرا وبيونسي وكريستينا أغيلايرا كانت قد تركت لهن أيضاً فضاء الظهور في إعلانات بيبسي.
أما في فريق نجوم كوكا كولا فنجد أسماء مثل: مارلين مونرو، ويتني هوستون، دومي مور... لكن إستراتيجية إعلانية أخرى حقّقت للشركة إشعاعاً أكبر، حيث اعتمدت على عقود الرعاية لمزيد من الإشعاع، أبرزها العقد المتواصل مع الاتحاد الدولي لكرة القدم ليرتبط اسم كوكا كولا منذ 1978 بكأس العالم، أي أكبر حدث رياضي من ناحية الشعبية.
تُظهر السياسات التسويقية للشركتين قدرة عجيبة على التأقلم، فحين قيل أن الثقافة الاستهلاكية تعمل على تفتيت الأسرة، اخترعت كوكا كولا منذ الخمسينيات قارورة الحجم العائلي لتبدو في مقدمة المدافعين عن قيم الأسرة، والتي تُظهرها في ومضاتها وقد اجتمع أفرادها على قارورة الكوكا كولا الضخمة، وسنجد صياغة عربية لهذا المعنى في الشعار الإعلاني الشهير "كوكا كولا تجمعنا" وقد اتخذ من الأجواء الرمضانية ديكوراً.
حتى حين أظهرت الدراسات الطبية حول مضار استهلاك المشروبات الغازية، وعلاقتها المباشرة بأمراض السمنة التي انتشرت في الغرب، نجحت كوكا كولا وبيبسي في احتواء الأزمة ثم تحويلها إلى لعبة دعائية جديدة. كانت كوكا كولا سبّاقة في إطلاق منتج "كوكا لايت"؛ مشروب غازي يحافظ على لذة الطعم وبدون آثار على الوزن، ولاحقاً أنشأت "كوكا زيرو" وظهرت "بيبسي ماكس" للحفاظ على المستهلكين الذين باتوا يخشون من السكريات العالية.
كانت صناعة كماليات، كما هو حال صناعة المشروبات الغازية، تحتاج إلى هذه القدرة على المناورة والفهلوة لأن رهانها في الأخير هو جلب أموال من شيء لا حاجة مُلحّة إليه. كانت قضية الشركتين واحدة: كيف يمكن بيع ما هو غير ضروري على نحو واسع؟
باع مُنتجا المشروبات الغازية في البداية فكرة تنشيط العمّال، وحين سقطت جيء بوهم جديد حين أصبح استهلاك المشروبات الغازية عنواناً لانتماء ما، ثم بيع وهم السعادة للناس، وسيباع أي وهم آخر كي تصل قوارير البيبسي وكوكلا كولا إلى كل الأسواق.
ولم يكن رهان اقتحام أسواق العالم طريقاً مفروشاً بالورود، ولا حتى شبيهاً بما تدرّبت عليه الشركتان في أميركا التي تربّى شعبها على القيم الرأسمالية. فكيف ستفتح الشركتان أبواب مجتمعات تأخّر اندماجها في فلسفة اقتصاد السوق؟
استشراق المشروبات الغازية
ظاهرياً، يوحي دخول كوكا كولا أو بيبسي إلى البيئة الشرقية باجتهاد هذه الماركات في الانسجام مع خصوصية المجتمعات. سواء على مستوى اللوغو بإعادة كتابته بحروف لغات الشرق أو من خلال الومضات الإعلانية، دائما ما تُضفى لمسة محلية على المُنتج الآتي من بلاد العم سام. لكن إمعان النظر في تغلغل هذه المنتجات في الشرق، سيُظهر العكس تماماً، فالأمر متعلق بعملية إسقاط رؤية غربية على الشرق وصولاً إلى قولبته ضمن النموذج الذي يحبّ أن يفرضه عليه الغرب وتسهل بالتالي الهيمنة عليه، وما ذلك إلا تعريف الاستشراق. تنغلق اللعبة بتحوّل الشرق في الأخير إلى "غرب ممسوخ".
لفهم كيف تمّت هذه العملية، يمكن أن نعود إلى ما سمّي في مصر بمرحلة الانفتاح التي بدأت بعد حرب أكتوبر 1973. سياسة جرى الترويج لها بوصفها إصلاحاً يهدف للمرور بمصر من اقتصاد موجّه إلى اقتصاد حر. كان التعبير المتجسّد لهذه السياسة الصعود اللافت لبيبسي وكوكا كولا في لافتات إشهار عملاقة في القاهرة، وقد ضربت تلك اللوحات الضخمة بقوة، فهزّت كل شيء حولها في سبيل اختراق الذهنيات قبل الأسواق. وعلى شاشات التلفزيون، وعبر القصف الإعلاني المتتابع، يمكن مشاهدة كيف تُدرّب الشعوب على ثقافة الاستهلاك حتى تصبح جزءاً مكوّنا من روحها.
لقد ترك المشروب الغازي الأسود أثرا جليا في الثقافة الجماهيرية المصرية. مثلاً، في فيلم "سواق الأوتوبيس" (عُرض أول مرة عام 1982) لعاطف الطيب، يذهب بطل الفيلم حسن (أداء: نور الشريف) إلى بور سعيد ليقنع صهره (شخصية البرنس التي أداها وحيد سيف) بإنقاذ ورشة نجارة والده من الإفلاس، وإعادتها للعمل في ترميز واضح لثقافة الإنتاج التي بدأت تحتضر في مصر.
يجد حسن بيتاً مكتظاً بالبضائع المستوردة، وخلال الغداء تلفتنا كثرة قوارير البيبسي المنتصبة على المائدة. هنا تحضر لقطة كلوز-آب تذهب بعيداً في توضيح أثر وفرة المنتجات الجديدة على سلوكيات المصريين، إذ تركز الكاميرا على يد البرنس وهو يملأ كأساً بالمشروب الأسود حتى تفيض، ومباشرة يكشف الفيلم انحدار اللغة التي بات يتخاطب بها أفرادُ أسرةٍ تغلغلت فيها منتجات عصر الانفتاح. كانت تلك المائدة التي أثثها عاطف الطيب تختزل انقلابَ مجتمعٍ، وتنتهي بشعور حسن أنه لا فائدة من طرح هموم إنقاذ الورشة على من تمكّنت ثقافة الاستهلاك من نفوسهم بذلك الشكل.
أثر ثان للمشروبات الأميركية ترصده رواية "اللجنة" (صدرت عام 1981) للكاتب المصري صُنع الله إبراهيم، وفيها يرسم مشهداً كاريكاتورياً عما فعلته أخلاق السوق بالمجتمع المصري. تقف الشخصية الرئيسية أمام لجنة توجّه سؤالاً حول ما يمكن اعتباره اختزالاً لمنجزات العصر الحديث، فيعتبر البطل أن أفضل إجابة هي كوكا كولا، ويبرهن على وجاهة رأيه بالقول: "لن نجد شيئا تتجسد فيه حضارة هذا القرن ومنجزاته، بل آفاقه، مثل هذه الزجاجة الصغيرة الرشيقة... إنها موجودة في كل مكان تقريبا"، قبل أن يسترسل في ذكر منجزات هذه الزجاجة مبيّناً في الأثناء انحدار التفكير وانتصار التفاهات في الواقع الجديد، وكيف جرى إنتاج كائنات رخوة يسهل تشكيلها في أسواق. وما الذي تحتاجه كوكا كولا وبيبسي كي تعيش وتزدهر غير أسواق كالصلصال تخلق منها ما تشاء، تدسّ فيها ما تشاء من مشروبات وأفكار وسلوكيات؟
كذلك، تظهر كوكا كولا في "أغنية السلام" للشيخ إمام، ومن كلماتها التي كتبها أحمد فؤاد نجم نفهم أن ومضة إعلانية لكوكا كولا قد طوّعت لغاياتها التسويقية أغنية "سالمة يا سلامة" لسيّد درويش. تقول الأغنية في سخرية سوداء: "سيد درويش اللي حيلتنا.. سرقوه وباعوه بيعة ندامة".
تنتقد الأغنية أيضا حضور المغنية الإيطالية - المصرية داليدا لأداء أغنية "فنان الشعب"، وهي التي سبق وغنّت احتفالاً بـ"انتصارات إسرائيل"، وفي خلفية كل ذلك بروباغندا التطبيع التي غزت مصر منذ نهاية السبعينيات. هكذا، في ومضة إعلانية كانت كوكا كولا فقد اختزلت لعبة جيوسياسية خطيرة.
لم يكن صدفة تزامن عصر الانفتاح في مصر مع دخول مشوار كامب ديفيد. هل كان من الممكن البدء في الاشتغال على تمرير مشروع مثل التطبيع دون تحويل الناس إلى كائنات رخوة، دون تخدير وعيهم بالاستهلاك المعمم، أو جعل ارتباطهم بالمنتجات أعمق من ارتباطهم بالمصلحة الوطنية. بهذا المعنى، أليس تحويل السلوكيات هو الدعم الأكبر الذي يقدمه كوكاكولا لدولة الاحتلال؟
لم يكن انفتاح السوق على كوكا كولا وبيبسي غير حصان خشبي كبير تُفتح له بوابة القلعة لتدخل معه مخططات الشرق الأوسط الجديد الذي تودّ هندسته الولايات المتحدة الأميركية.
خناجر القوى الناعمة
في نفس تلك السنوات التي نشطت فيها الولايات المتحدة الأميركية لترتيب الشرق الأوسط، حقّقت ديبلوماسيتها أيضاً إنجازاً أساسياً سرعان ما قبضت ثمنه الشركات الأميركية، حين جرى استئناف العلاقات مع "أكبر سوق في العالم" عام 1980. وقد كان العنوان الأبرز لاستئناف العلاقات بين البلدين هو السماح بتسويق كوكا كولا في بلاد ماو تسي تونغ الذي لم تمض على رحيله إلا بضع سنوات. ومع اكتمال النصر الرأسمالي على المعسكر الشيوعي بتفكك الاتحاد السوفيتي بنهاية عقد الثمانينيات، لم يبق بلد في العالم لم تصله المشروبات الأميركية إلا كوبا وكوريا الشمالية.
لكن تمدّد كوكا كولا أو بيبسي لم يكن دائماً بأدوات الديبلوماسية الأميركية وحدها. ففي سنوات الحرب الباردة، كانت صناعة المشروبات الغازية جاهزة لدعم الجهود العسكرية أو المخابراتية وليس فقط كأدوات استعراض للقوة الناعمة الأميركية. في 1970، جلس المدير العام لبيبسي دونالد كيندال على طاولة الرئيس نيكسون لبحث خطة إسقاط التجربة الاشتراكية في تشيلي، والتي تجسّدت بعد ثلاث سنوات في الانقلاب الذي قاده أغوستو بينوشيه للإطاحة بالرئيس المنتخب سالفادور أليندي.
في أميركا الجنوبية أيضاً، أظهرت تقارير عام 2005 تورّط كوكا كولا في التخطيط لاغتيال قيادات نقابية كانت تثير ملفات متعلقة باستغلال العمّال. وفي عام 2014، أظهرت تحقيقات صحافية في فرنسا أن كوكا كولا انتهجت سياسات رشوة مسؤولين لتسوية قضايا ضريبية.
لا تقف انتهاكات الشركات الأميركية عند هذا الحد، فهي متورّطة في كثير من فضائح التلوّث البيئي والصحّي، أشهرها قضية في الهند بداية السبعينيات حيث جرى إثبات حالات تسمم جراء استهلاك كوكا كولا، ما دفع الحكومة الهندية إلى حظر استيراد المشروب الأميركي، لكن ذلك كان فرصة لبيبسي لملء الفراغ. ومن المفارقات أنها تعرّضت هي الأخرى عام 2003 إلى اتهامات باستعمال مواد سامة في تركيبة المشروب المروّج في شبه القارة الهندية.
ما كان التسميم الذي تفرزه صناعة المشربات الغازية مقتصراً على الأجساد البشرية، فقضايا تلويث الموائد المائية قرب مصانع قوارير كوكا كولا أو بيبسي مما لا يعد ولا يحصى. كما أن وصول المشروبات الغازية الأميركية لكل مكان في العالم يعني أيضاً أن البلاستيك قد غزا الكوكب. رغم كل ذلك، لا يحضر الوعي بالأثر السلبي لصناعات المشروبات الغازية إلا على هامش خطاب كوكا كولا وبيبسي، فما ذلك إلا مجرّد خسائر جانبية شبيهة بتلك التي ترافق العمليات العسركية الأميركية في العالم.
وللتلوّث الناتج من الإنتاج المفرط للمشروبات الغازية أشكال أخرى، منها إثباتات بمساهمة شركات المشروبات الأميركية في إفساد البيئة المعرفية من خلال تمويل أبحاث مغالِطة، أو العمل على تعطيل نشر دراسات تشير إلى مضار المشروبات الغازية، ومنها علاقة توسّع استهلاكها بانتشار مرض السرطان. وهل يوجد شيء شبيه بالسرطان أكثر من تمدّد الشركتين في كل مكان من الكوكب.
تفتيت حملات المُقاطعة
مع مختلف الفضائح التي مرّت بها كوكا كولا وبيبسي، كانت تنهض حملات مقاطعة ضدّهما، وتظل التحركات الأبرز تلك التي تنهض في البلدان العربية مع كل عدوان إسرائيلي على الفلسطينيين وبروز الشركتين بشكل ثابت لدعم موقف دولة الاحتلال. ومهما تكن موجة المقاطعة عالية، ينجح مُنتجا المشروبات الغازية في تفتيت حملات المقاطعة والعودة من جديد.
يحدث ذلك بطرق مختلفة مثل احتواء الأزمة عبر خفض الإنتاج مرحلياً لتقليل الخسائر حتى مرور العاصفة، ثم العودة من خلال حملات إعلانية مكثّفة باستغلال أحداث رياضية كبرى غالباً. لكن الاستراتيجية الأبرز كانت ربط مصالح الرأسمال الأميركي بمصالح الدول، لتصبح كوكا كولا مصريةً وتونسيةً ولبنانيةً وعراقية وغير ذلك، حتى إذا جاءت حملات المقاطعة باتت تهدّد ببطالة عدد غير هيّن من العمّال والموظفين في هذا البلد أو ذاك، وتنعكس الخسائر أولاً على عائدات رجال أعمال لهم وسائلهم في الضغط على حكوماتهم فلا تجد مصلحة في الذهاب بحملات المقاطعة أبعد من المبادرة الشعبية.
تعوّل بيبسي أو كوكا كولا على الذاكرة القصيرة للشعوب كي تعود إلى مواقعها سريعاً. صحيح أن تاريخ فضائحها الطويل قد ضرب صورتي الشركتين العملاقتين، لكن وصَفات العودة إلى الواجهة جاهزة لدى خبراء التسويق. وما يفشل فيه فريق بيبسي يجد له طاقم كوكا كولا حلاً؛ المهم أن تواصل عجلة الأرباح الدوران والتهام العالم.