ألقت أزمة السيولة المالية في أفغانستان بتبعات ثقيلة على معيشة الأسر، ولا سيما بعد توقف صرف رواتب الكثير من الموظفين منذ ثلاثة أشهر، ومعاناة المواطنين في الحصول على أموال زهيدة من ودائعهم لدى البنوك، ما فاقم من الصعوبات المعيشية، لتصبح مشاهد بيع الأثاث في العاصمة كابول مألوفة في الآونة الأخيرة نظير تدبير الاحتياجات المعيشية.
منذ الصباح الباكر يصطف مئات المواطنين أمام فروع البنوك المختلفة في كابول والمناطق الأخرى، لساعات طويلة من أجل الحصول على بعض ما وضعوه من أموالهم في البنوك، لكنْ قليلون منهم يتمكنون من الصرف، فيما يعود كثيرون من حيث أتوا، رغم مجيئهم من ولايات ومناطق بعيدة، دون أن يتحصلوا على أي نقود.
وحدد البنك المركزي، نهاية أغسطس/ آب الماضي، سقفاً لسحب المواطنين مدخراتهم من البنوك، سواء بالدولار أو العملة المحلية. ووفق القرار، لا يُسمح لأي مواطن بسحب أكثر من 200 دولار في الأسبوع، وذلك للذين لهم حساب بالعملة الأميركية.
أما الذين لهم حساب بالعملة الأفغانية، فلا يحق لهم سحب أكثر من 20 ألف أفغانية (العملة المحلية) أسبوعياً، وكذلك الحال بالنسبة إلى من لهم ودائع من الذهب، إذ لا يمكنهم إخراج أكثر مما يعادل 20 ألف أفغانية.
ومنذ مطلع أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، لم تعد البنوك قادرة على دفع الدولار للزبائن، في ظل شحّ العملة الأميركية، لتستعيض عنها بالعملة الأفغانية، حتى لو كانت حساباتهم بالدولار، حيث تصرفها بقيمة أقل من قيمة السوق.
منذ مطلع أكتوبر، لم تعد البنوك قادرة على دفع الدولار للزبائن، في ظل شحّ العملة الأميركية، لتستعيض عنها بالعملة الأفغانية، حتى لو كانت حساباتهم بالدولار، حيث تصرفها بقيمة أقل من قيمة السوق
تقول المواطنة حديثة مبارز، إن لديها حساباً في فرع البنك الدولي الأفغاني في منطقة شهر نو (تابعة لولاية بدخشان شمال شرقيّ أفغانستان) "والأمر أصبح مؤسفاً للغاية، منذ أسبوعين اعتذر البنك، وقال لنا إن علينا أن نأخذ العملة الأفغانية بدلاً من الدولار الذي لا يوجد في البنوك، بينما كنت أسحب 200 دولار أسبوعياً لتسيير أمورنا، وعلى سبيل المثال استأجرت شقتي بـ250 دولاراً، وبالتالي أحتاج إلى الدولار لدفع الإيجار".
وتضيف لـ"العربي الجديد": "أقف لثلاث ساعات للحصول على المبلغ بالأفغانية، والمشكلة تكمن أيضاً في أن القيمة التي يقدمها لنا البنك، أقل من السوق على الأقل بنسبة 2%، وأنا بحاجة مرة أخرى إلى تحويلها للدولار، وهنا أخسر كثيراً، لكن لا مفرّ، لأني أريد بأي حال أن أخرج من البنك بما وضعت فيه من المال، ولن أعاود الادخار في البنك مجدداً".
تعمل مبارز مع مؤسسة إنسانية في كابول، لكن المؤسسة توقفت عن تحويل الرواتب إلى البنوك منذ أن سيطرت حركة طالبان على العاصمة في أغسطس/ آب الماضي، بينما لم تتمكن هذه الموظفة من تسلّم راتبها حتى الآن بأي طرق بديلة، ما اضطرها إلى سحب مدخراتها لتلبية احتياجاتها المعيشية.
بدوره، أقر أحمد خالد، أحد العاملين في فرع البنك الدولي الأفغاني في منطقة شهر نو، بوجود أزمة في صرف الأموال، مشيراً إلى أن مشاكل السيولة قد تدفع الكثير من فروع البنوك إلى الإغلاق وتسريح إعداد كبيرة من الموظفين، وإلى أن جميع العاملين في فرع البنك يعيشون حالة من الخوف على وظائفهم، حيث لم يعد أحد يعمل بشكل طبيعي.
بالإضافة إلى مشكلة البنوك، لم تتمكن حكومة تصريف الأعمال في أفغانستان من دفع رواتب الكثير من الموظفين، رغم وعودها المتكررة بإنهاء الأزمة، حيث اقتصر صرف الرواتب على موظفي بعض الإدارات في كابول والولايات مثل شرطة المرور، ولكنها ما زالت عاجزة عن دفع رواتب عامة الموظفين في الحكومة المركزية والحكومات المحلية في الولايات، ما أوجد ظروفاً معيشية قاسية لهؤلاء.
زادت القفزات في أسعار السلع، ولا سيما الغذائية، من معاناة الكثير من الأسر، الأمر الذي سبّب تراجع القدرات الشرائية وتغير أنماط الشراء
تقول بصيرة معروف التي تعمل معلمة في إحدى المدارس لـ"العربي الجديد": "نواجه مشاكل مدوية بسبب عدم الحصول على الرواتب لثلاثة أشهر، فالحكومة الأفغانية السابقة لم تدفع رواتبنا لشهر واحد، وعندما أتت طالبان لم تدفع رواتبنا لشهرين، بالتالي نعيش في حالة صعبة".
تعيش المعلمة بصيرة مع أسرتها الصغيرة في منزل مستأجر في منطقة لب جر في ضواحي كابول، مشيرة إلى أنها تدفع جزءاً من راتبها لصاحب المنزل، وتنفق على ابنتيها اللتين تدرسان، بينما أضحت عاجزة عن مواجهة التزاماتها، ما اضطرها إلى بيع بعض المشغولات الذهبية التي اشتراها زوجها لدى الزفاف، حتى تنفق خلال هذه الأشهر.
تقول: "كنا بأمسّ الحاجة إلى الغذاء، لذا بعت بعض الذهب لشراء السلع الأساسية، وأبقيت ما بقي من مال للأيام القادمة، لأننا لا نعرف متى ستُدفَع الرواتب. الوضع مؤسف للغاية، والأمور تسير نحو التدهور أكثر إذا لم تتخذ طالبان خطوات عاجلة".
وزادت القفزات في أسعار السلع، ولا سيما الغذائية، من معاناة الكثير من الأسر، الأمر الذي سبّب تراجع القدرات الشرائية وتغير أنماط الشراء.
ويقول عاطف الله خان، صاحب متجر في منطقة شير بور في كابول، لـ"العربي الجديد" إن "عدد الزبائن يقلّ بشكل متواصل، السيولة تنعدم بين الناس، فالكثير منهم لم يتقاضوا رواتبهم، والتجارة توقفت بشكل كبير".
يشير التاجر الأفغاني إلى أن الغلاء طاول كل شيء، فسعر السكر على سبيل المثال وصل إلى 60 أفغانية للكيلوغرام الواحد، مقابل 44 أفغانية قبل أيام، كذلك ارتفعت أسعار الدقيق وغاز الطهو وغيرها، معتبراً أن طالبان فشلت في التصدي لهذه الحالة وتكتفي بالوعود الروتينية وبوصية المواطنين بالتحلي بالصبر.
وبسبب الوضع المعيشي الهش، بدأ بيع أثاث المنزل وشراؤه ظاهرة متفشية تحولت إلى تجارة مفضلة لدى بعض الناس، حيث تسمع أصوات التجار لدى تجولهم في أزقة كابول وشوارعها، يعرضون على الناس شراء أثاث المنزل. وسكان كابول الفقراء يبيعون كل ما يمكن الاستغناء عنه، مثل السجاد والثلاجات والغسالات وغيرها، ويبيعونها بأثمان زهيدة للغاية.
بسبب الوضع المعيشي الهش، بدأ بيع أثاث المنزل وشراؤه ظاهرة متفشية تحولت إلى تجارة مفضلة لدى بعض الناس
محمد وليد، أحد سكان منطقة سراي هراتي، في ضواحي العاصمة كابول، كان بحاجة إلى شراء طاولة طعام وكراسيّ، لذا ذهب من أجل ذلك إلى السوق قبل أسابيع، وكان سعر طاولة وستة كراسيّ 20 ألف أفغانية، ليتراجع عن الشراء، لكن الآن ذهب إلى سوق الأثاث الذي دُشن حديثاً واشتراها مقابل 8 آلاف أفغانية، على الرغم من أن الطاولة جديدة، مشيراً إلى أن تدني الوضع المعيشي دفع سكان كابول وأفغانستان عموماً إلى بيع ما يمكن الاستغناء عنه مقابل أموال زهيدة تعينهم على العيش.