مثل قطع الدومينو تسقط واحدة تلو الأخرى، يسقط الحجر الأول وبعده تتساقط الأحجار الأخرى، يتكرر المشهد في عالم الدول التي تواجه أزمات اقتصادية ومالية حادة، تسقط دولة نامية في فخ الإفلاس والتعثر، ومعها تسقط عملاتها ومواطنوها واقتصاداتها وأسواقها في وحل الديون والغلاء والركود والكساد والفساد، وبعدها تتساقط دول أخرى.
والأسباب حاضرة وقوية ومزدوجة في الوقت الحالي، فأولاً، تداعيات جائحة كورونا الخطيرة التي أثرت سلباً على كل الاقتصادات العالمية، خاصة النامية، ولمدة تزيد عن العامين وكبدتها خسائر تتجاوز عشرات التريليونات من الدولارات.
الحرب الأوكرانية تسببت في حدوث موجة تضخمية وقفزات في أسعار الحبوب والغاز الطبيعي والنفط والمواد الخام، وتعطل الإمدادات الغذائية
وثانياً، موجة تضخم حادة في كل دول العالم تسببت في غلاء المعيشة وتكلفة الأموال وتهاوي القدرة الشرائية للمواطن، وحدوث قفزات في جميع الأسعار وفي مقدمتها الغذاء خاصة القمح والذرة والزيوت، وارتفاعات قياسية في أسعار الوقود من بنزين وسولار وغاز طبيعي، وايجارات المنازل والمواصلات وغيرها.
وثالثاً، الحرب الأوكرانية التي تسببت هي الأخرى في حدوث قفزات في أسعار الحبوب والغاز الطبيعي والنفط والمواد الخام، وتعطل الإمدادات الغذائية، أو تراجع المتاح منها مع وضع دول قيود على صادراتها الزراعية، وخسائر فادحة في الإيرادات السياحية لبعض الدول، وتراجع في حركة السياحة القادمة من روسيا والجمهوريات السوفييتية السابقة.
وأخيراً سبب آخر رابع وأخطر وأحدث وهو زيادة سعر الفائدة على الدولار من قبل البنك الفيدرالي الأميركي لمواجهة موجة تضخم لم تشهدها الولايات المتحدة منذ 40 سنة وقد تنهي رفاهية الأميركيين، وهو القرار الذي سيحدث دوياً وهزات عنيفة في كلّ أسواق العالم، خصوصاً مع الزيادات المتوقعة للعائد في شهري مايو/ أيار ويونيو/ حزيران المقبلين.
إذ سيدعم القرار موجة الهروب الكبير للأموال الساخنة والاستثمارات الأجنبية السريعة وقناصي الصفقات من كل الدول النامية والأسواق الناشئة، ويضغط على العملات المحلية في البلدان النامية، خاصة تلك التي تعتمد على القروض الخارجية في سد فجواتها التمويلية وعجز الموازنات العامة. كما سيرفع كلفة الاقتراض لدول لديها فاتورة كبيرة من الديون.
قرار زيادة الفائدة على الدولار سيدعم موجة الهروب الكبير للأموال الساخنة والاستثمارات الأجنبية السريعة وقناصي الصفقات من كل الدول النامية والأسواق الناشئة
هذه الأيام وقعت سريلانكا وقبلها لبنان في فخ التعثر المالي، والاقتراب من حافة الإفلاس وربما الوقوع فيها بالفعل، إذ أعلنت بيروت على لسان نائب رئيس وزرائها سعادة الشامي عن تعثر الدولة ومصرفها المركزي، كما أعلنت حكومة كولومبو عن مواجهة سيرلانكا أسوأ ركود وأزمة مالية منذ استقلالها عام 1948.
وتوقفت الدولتان، لبنان وسيرلانكا، عن سداد أقساط الديون الخارجية المستحقة عليهما، وبالتالي الدخول في مرحلة الإفلاس، كما تواجهان أزمة مالية حادة وندرة في النقد الأجنبي وتضخماً جامحاً وبطالة متفشية وفقراً مدقعاً.
سريلانكا قطعة من دومينو الدول المرشحة للتعثر والإفلاس، ولمن لا يعرفها هي دولة آسيوية تقع في المحيط الهندي جنوب الهند، وشهدت في الفترة الأخيرة أزمات اقتصادية ومالية حادة وزيادة الجوع ونقص الغذاء والوقود وانقطاع التيار الكهربائي وتضخماً متسارعاً وديوناً ضخمة وتراجعاً في عائدات السياحة، خصوصاً عقب اندلاع الحرب الأوكرانية.
وهي كلها عوامل دفعت المواطنين إلى الخروج إلى الشارع للاحتجاج والتظاهر واحتلال مكتب الرئيس غوتابايا راجاباكسا، ومطالبته بالتنحي، بعدما خلت رفوف المحال التجارية من السلع الأساسية، وشهدت الأسواق ارتفاعاً حادّاً في أسعار المواد الغذائية وانهيار قيمة العملة المحلية.
في سريلانكا خلت رفوف المحال التجارية من السلع الأساسية، وشهدت الأسواق ارتفاعاً حادّاً في أسعار المواد الغذائية وانهيار قيمة العملة المحلية
ودفعت الأوضاع الصعبة السلطات في سيرلانكا إلى الاقتراض لشراء المواد والسلع الغذائية، لكنّ الأزمة تزايدت مع تراجع احتياطيات النقد الأجنبي، وهنا خرجت الحكومة لتعلن عن توقفها عن سداد الديون الخارجية والبالغة قيمتها نحو 51 مليار دولار، وسعيها للحصول على قرض إنقاذ من صندوق النقد الدولي.
سريلانكا لن تكون الدولة المتعثرة الأخيرة، بل ستعقبها دول أخرى، خاصة مع استمرار الحرب الأوكرانية، وزيادة سعر الفائدة على الدولار لمعدلات قياسية، وطل كورونا برأسها ومتحوراتها من وقت لأخر، والسؤال هنا: من التالي في قائمة الدول المتعثرة وربما المفلسة، وما تأثيرات ذلك على المواطن؟