على الرغم من الإقبال الذي فاق التوقعات (عن جد وبلا أي سخرية) على التصويت في انتخابات الرئاسة المصرية، التي كانت محسومة قبل أن تبدأ، لم يشغل المصريون أنفسهم بالنتيجة، وإنما انصرف اهتمامهم لمحاولات استشراف ما يمكن أن يحدث بعد الانتخابات، خاصة مع القفزات التي يشهدها سعر الدولار مقابل عملتهم في السوق السوداء، بالتزامن مع العديد من القيود التي يتم فرضها، للحد من إنفاقهم بالعملة الصعبة.
وبينما كانت الأبواق الإعلامية المملوكة للمخابرات العامة، والعديد من المسؤولين الحكوميين، يتسابقون على الترويج لفكرة عدم وجود نية لإجراء خفض جديد لقيمة الجنيه المصري في النظام المصرفي الرسمي، كان الكثيرون يتحدثون عن موعد ذلك الخفض، بما يعني أنهم تجاوزوا سؤال "هل"، وصلوا إلى مرحلة "متى"، و"إلى أي حد".
بنك "مورغان ستانلي" الاستثماري الأميركي أعد تقريراً عن الاقتصاد المصري، نشره قبل بدء عملية التصويت في الانتخابات بيومين، توقع فيه استمرار السياسات النقدية التي اتبعت على مدار العامين الماضيين، مشيراً إلى التزام مصر بخريطة الطريق التي تم وضعها، بالتنسيق مع صندوق النقد الدولي، قبيل نهاية العام 2022، من أجل ضمان حصول مصر على تسهيل ممدد بقيمة 3 مليارات دولار، لم تحصل مصر منها، بعد مرور عام كامل، إلا على مبلغ يقدر بنحو 347 مليون دولار.
وأشار "مورغان ستانلي" إلى أن خريطة الطريق المقصودة هي التي تعتمد على إعادة هيكلة شاملة الاقتصاد، تشمل أجندة إصلاح، بما في ذلك برنامج الخصخصة الطموح، مع الانتقال إلى نظام سعر صرف مرن. وأكد البنك الأميركي توقعه استمرار العمل وفق هذا البرنامج، نظرا للتحديات المستمرة المتعلقة بنقص العملة الأجنبية، وارتفاع التضخم، والضغط على الاقتصاد.
أيضا أشار البنك إلى الأخبار المتداولة مؤخرا، والخاصة باحتمالية زيادة حجم قرض الصندوق، ربما إلى أكثر من 5 مليارات دولار (البعض تحدث عن 10-12 مليار دولار)، رغم تعثر مصر في السماح بنظام سعر صرف مرن، على النحو الذي تم الاتفاق عليه.
لا يمكن إنكار حيرة المسؤولين في تطبيق سياسة سعر صرف العملات الأجنبية المناسبة في مصر على المديين القصير والطويل. فمن ناحية، يرى صندوق النقد أن سعر الصرف المرن بصورة دائمة يمهد الطريق لحركات في الاتجاهين، بما يعكس العرض والطلب على العملات الأجنبية. ويطالب الصندوقُ البنكَ المركزي المصري بالامتناع عن التدخل في سوق العملات الأجنبية، للسماح لسعر الصرف بإيجاد نقطة توازن حقيقية، لا يعرف أحد حتى الآن أين ستكون.
ولكن من الناحية الأخرى، يتجاهل الصندوق تبعات الاستمرار في السماح للجنيه المصري بالضعف أمام الدولار، وما سببه ذلك من تراجع مستويات المعيشة، بالإضافة إلى دخول الملايين من المصريين تحت خط الفقر، خلال العامين الماضيين، وهو ما دفع المسؤولين لتأكيد رفضهم إجراء خفض جديد للعملة المصرية، رغم أنه واحد من أهم بنود الاتفاق مع الصندوق.
وحقيقة حاول البنك المركزي الوفاء بهذا البند من الاتفاق، حيث قام بثلاث جولات من التخفيضات لسعر صرف الجنيه مقابل الدولار، شهدت تراجعاً تراكمياً بنحو 50% لقيمة الجنيه. ورغم تثبيته (تقريباً) لاحتياطي النقد الأجنبي في هذه الفترة، استنزف البنك المركزي، أو البنوك المحلية، أو كلاهما، صافي أصول القطاع المصرفي بالعملة الأجنبية، ليتحول رصيدها من نحو 10 مليارات دولار (موجب) في أكتوبر 2021، إلى عجز (سالب) برقم ضخم، قدره البنك المركزي الشهر الماضي بنحو 27 مليار دولار، بينما تشير تقارير لمؤسسات مالية أميركية إلى أنه يتجاوز 30 مليار دولار، على أقل تقدير.
ويعقّد الأمر الآن أن أغلب القرارات التي اتخذت لحل الأزمة، على مدار العامين الماضيين، لم تنجح في زيادة المعروض من العملة الأجنبية، أو زيادة الطلب على العملة المصرية بصفة دائمة، وإنما جاءت كلها في صورة ترحيل الأزمة لبعض الوقت، حتى لو كان ذلك على حساب زيادة الطلب على العملة الأجنبية من جراء هذا الترحيل.
باعت مصر حصة الحكومة في العديد من الشركات الناجحة، التي تحقق ربحية، وبعضها يصدر ويحصل على العملة الأجنبية مقابل بيع بضائعه، وكان البيع لجهات أجنبية، أغلبها من السعودية والإمارات، بما يعني أن من اشتروا سيحصلون على ما كانت الحكومة المصرية تحصل عليه من أرباح، وأنهم سيطلبون تحويلها إلى بلدهم مطلع كل عام.
هذا التطور الطبيعي يعني زيادة الطلب على العملة الأجنبية في مصر، ولو لم يستجب البنك المركزي لطلبهم بتحويل الأرباح، سيقوم هؤلاء بشراء العملة الأجنبية التي بحوزة المصريين في الخارج، على أن يدفعوا المقابل لها بالعملة المصرية، في البنوك المصرية.
هل لاحظتم تراجع تحويلات المصريين العاملين في الخارج العام الماضي بأكثر من 8 مليارات دولار، أو ما يزيد عن 25% من تحويلات العام السابق؟
أيضاً حاولت مصر زيادة المعروض من العملة الأجنبية من خلال الاقتراض، فتم ترحيل الالتزام الواجب دفعه بالعملة الأجنبية لفترة من الوقت، مع تحمل المزيد من الفوائد، وهو ما يعني التزاماً أكبر، في وقت لاحق.
ولو أضفنا لذلك السحب من أصول القطاع المصرفي بالعملة الأجنبية، واستمرار تعميق العجز، مع ما تسببت فيه الحرب على غزة من تراجع إيرادات السياحة، ومؤخراً تراجع إيرادات قناة السويس، فيمكن القول إن مشكلة العملة الأجنبية ليست في طريقها إلى الحل، كما يحاول البعض الترويج، وإنما هي قنبلة موقوتة، تقترب كل يوم من الانفجار.
لكن البعد الأسوأ في هذه الأزمة هو تزامن كل تلك الضغوط مع وجود مخطط شيطاني، يهدف إلى تهجير إخواننا الفلسطينيين من غزة إلى الأراضي المصرية، مقابل حصول مصر على عدة مليارات من الدولارات، وهو ما قد يراه مسؤولون في مصر مخرجاً آمنا من الأزمة، بينما هو في حقيقة الأمر تسريع لانفجار القنبلة، مع ما يترتب عليه من تصفية نهائية للقضية الفلسطينية.
وأدعو الله أن أكون مبالغاً في تخوفاتي!