تواجه تركيا موقفاً صعباً بعدما دعتها أوكرانيا إلى إغلاق مضيقي البوسفور والدردنيل أمام السفن الحربية الروسية اليوم الخميس، مما ضغط على الدولة العضو في حلف شمال الأطلسي، والتي تربطها علاقات اقتصادية واسعة مع روسيا.
وتقول "وول ستريت جورنال"، إنه بموجب معاهدة دولية عام 1936، تسيطر تركيا على مضيقي الدردنيل والبوسفور اللذين يمثلان نقطة الاختناق على البحر الأسود. تسمح المعاهدة، التي تسمى اتفاقية مونترو، بمرور السفن الحربية التابعة لدول على البحر الأسود وتفرض قيودًا على السفن البحرية القادمة من دول غير مطلة على البحر الأسود.
كما تمنح المعاهدة تركيا الحق في منع السفن البحرية في ظل ظروف معينة في أوقات الحرب، بما في ذلك إذا كانت تركيا نفسها مهددة.
إلا أن الاقتصاد التركي، الذي يعاني بالفعل من أزمة عملة، معرّض بشكل خاص لصدمة الحرب في أوكرانيا المجاورة. وتشتري تركيا أكثر من ثلث وارداتها من الغاز الطبيعي من روسيا و85 في المائة من القمح المستورد من كل من روسيا وأوكرانيا. وشكل الروس والأوكرانيون أكثر من ربع إجمالي السياح الوافدين إلى تركيا في المتوسط كل شهر خلال عام 2021.
وتراجعت الليرة التركية 2.6 بالمائة مقابل الدولار اليوم الخميس، وهو أقل مستوياتها منذ شهرين بعد إطلاق القوات الروسية صواريخ على عدة مدن في أوكرانيا وإنزالها قوات على ساحلها.
وسجلت الليرة 14.52 مقابل الدولار بعد استقرارها على نطاق واسع في الشهر الماضي، وتراجعت عن مستوى الإغلاق أمس الأربعاء الذي سجل 13.8 مقابل الدولار.
مصالح متعاظمة مع روسيا
وكان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان وصف خلال عودته من الجولة الأفريقية أول من أمس، الاعتراف الروسي باستقلال إقليمي دونيتسك ولوغانسك بـ"غير المقبول" ليأتي إعلان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، فجر الخميس، إطلاق عملية عسكرية على أوكرانيا جابّاً لما قبله.
وآثرت تركيا، حتى ليل الأربعاء، الوقوف بصف الدول الحريصة على عدم نشوب الحرب، بين روسيا وأوكرانيا، بل خرجت أنقرة بحسب مراقبين، من صف الدول المتمنية تغليب الحوار، إلى الساعية لسحب فتيل التوتر، عبر زيارة قام بها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان للعاصمة الأوكرانية كييف منتصف الشهر الجاري، تمخض عنها توقيع ثماني اتفاقيات، أبرزها التجارة الحرة والتعويل على مضاعفة حجم التبادل، ليصل إلى 10 مليارات دولار. قبل أن يتفق البلدان على الإنتاج المشترك لطائرة "تي بي تو "التركية بدون طيار.
لكن أنقرة، كما يرى مراقبون، لن تجازف بعلاقاتها مع روسيا وتبدو مؤيدة لكييف، لأن في موسكو أيضاً خياراً تركياً تعاظم بعد عام 2016، فترة ما بعد إسقاط الطائرة الروسية والانقلاب الفاشل بتركيا، ليزيد حجم التبادل التجاري عن 25 مليار دولار ويعوّل، بحسب الطرفين بالمستقبل، على 100 مليار، من دون أن تؤذي تركيا المشاريع العملاقة المشتركة، وأهمها السيل التركي لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا، ومحطة "آق قويو" النووية في ولاية مرسين.
واردات الغاز
ولا يستبعد الاقتصادي التركي، مسلم وأويصال، أهمية الغاز بالدور التركي المحايد، ففي حين تحرص تركيا على علاقاتها مع أوكرانيا وتطويرها، يهمها برأيه عدم القطيعة مع روسيا، معتبراً أن بلاده ستتأثر "إن لم نقل تتأذى" على صعيد الغاز، سواء لجهة الحصة التي تجنيها من مرور الغاز الروسي، أو مستورداتها من موسكو التي تأتي بمقدمة الدول المصدرة لتركيا بنحو 33.6% من حاجتها.
ويضيف أويصال لـ"العربي الجديد" أن معظم عقود بلاده طويلة الأجل، لاستيراد الغاز الطبيعي، انتهت أو شارفت على الانتهاء. ويرى أن بلاده، بحاجة لعامين على الأقل، لتتحرر من فاتورة الطاقة المرتفعة (أكثر من 41 مليار دولار) لتبدأ بالإنتاج وربما التصدير.
ويضيف أن تركيا ستتأذى من الحرب، بعدما باتت أهم محور لنقل ومرور الطاقة حول العالم، بسبب وجودها بمنطقة الشرق الأوسط وغرب بحر قزوين، أي أن تركيا في منطقة تمتلك 71 من احتياطي الغاز المؤكدة، وأكثر من 72% من احتياطيات النفط، وقد وقعت اتفاقات مع معظم دول الجوار، روسيا، أذربيجان، وإيران لمرور الغاز والنفط، وربما لاحقاً مع إسرائيل وقطر، ولكن من جراء الحرب، قد تخسر بعض مصالحها المتأتية من كونها ممراً بين الدول المنتجة والمستهلكة.
كذا، تتزايد التوقعات بخسائر الاقتصاد التركي، جراء ارتفاع سعر برميل النفط إلى أكثر من 100 دولار، بعد بدء العملية العسكرية الروسية بأوكرانيا، فتركيا التي تستورد نحو 360 مليون برميل سنوياً، سيرفع فارق الأسعار من فاتورتها الطاقوية.
ويقول المحلل التركي، كاتب أوغلو لـ"العربي الجديد" إن بلاده تحسبت سابقاً لأي ارتفاع لأسعار النفط والغاز، فأبرمت عقوداً آجلة مع قطر وليبيا وأذربيجان وإيران والجزائر بالأسعار الرائجة وبعض العقود بأسعار تفضيلية، كما ستحاول التسريع بمشروعات الطاقة البديلة ومفاعل "آكويو" بالتعاون مع روسيا، لإنتاج الطاقة السلمية من المفاعل النووي.
لكن الواقع على الأرض والأسواق يؤكد تتالي الزيادات على أسعار الوقود في تركيا، لتصل بحسب جمعية اتحاد أصحاب محطات الوقود إلى 79 مرة خلال عام، حيث ارتفع سعر ليتر البنزين نحو 33 مرة، و28 مرة للديزل و18 مرة للغاز المسال.
ارتباطات سياحية قوية
وتأتي السياحة ربما بمقدمة القطاعات المرشحة للخسائر المباشرة بالاقتصاد التركي، جراء حرب روسيا على أوكرانيا، فكلا البلدين، جار وحليف لأنقرة ويتزايد توافد السائحين منهما، خاصة بعد تراجع سعر صرف العملة التركية ورخص السياحة والسلع.
وتتربع روسيا على قائمة السياح الوافدين إلى تركيا، بل ولا يغيب عن المخطط التركي إدراج عائدات نحو خمسة ملايين سائح روسي سنوياً لبلاده، فخلال العام الفائت، ورغم بقايا آثار ومخاوف "كورونا" بلغ عدد السياح الروس لتركيا 4.694 ملايين، بزيادة بلغت 175.73 بالمائة عن العام الذي قبله، بحسب هيئة الإحصاء التركية.
بالمقابل، يزيد عدد السياح الأوكرانيين إلى تركيا، بعد تنامي العلاقات، ليقتربوا من مليون سائح عام 2020. العامل بالقطاع السياحي فاتح أرسلان يتوقع تراجع السياح، ومن كلتا الدولتين بعد نشوب الحرب، بعدما هيأت تركيا كل ما يلزم لاستعادة تعافيها السياحي، بعد عامي كورونا وتراجع الآمال المعقودة على هذا القطاع - القاطرة.
ويرى أرسلان خلال حديثه لـ"العربي الجديد" أن الروس هم أكثر الوافدين والمنفقين ببلده، خاصة بمناطق وولايات محددة، بمقدمتها أنطاليا التي يمتلكون فيها عقارات واستثمارات ويشكلون ركن سياحتها وتطورها.
بالمقابل، يقول المحلل التركي، يوسف كاتب أوغلو إنه بحال الأزمات، لا يمكن النظر للوافدين على أنهم سياح، فبعضهم هارب من ويلات الحرب وربما بعضهم يسعى للاستقرار، فإن أتى خمسة ملايين من روسيا وأوكرانيا، فربما ينتعش السوق والسياحة إلى أجل، ولكن تبعات الحرب تطغى على توقعات السياحة.
ولا يبتعد الباحث، يحيى السيد عمر عن رأي سابقيه، مؤكداً لـ"العربي الجديد" أن الحرب ستؤثر بشكل كبير على السياحة في تركيا. فالسياح الروس لن يزداد عددهم بل سيشهد تراجعاً، نتيجة تأثر الاقتصاد الروسي سلباً بالحرب. لا سيما في ظل العقوبات الغربية على روسيا. وبالتالي يتراجع مستوى دخل الفرد الروسي وهو ما سيحد من الطلب على السياحة الخارجية.
تأثير على العقارات
وبالوقت الذي تعوّل خلاله تركيا على قطاع العقارات، ليحرك السوق التركية التي تعاني من جمود، بعد ارتفاع الأسعار ووصول التضخم إلى 48.7 على أساس سنوي، تأتي الأزمة الروسية الأوكرانية لتضع هذا القطاع على المحك، بعدما تصدرت الدول الأوروبية في بيع أكبر عدد من العقارات خلال 2021، بواقع نحو 1.5 مليون عقار، بحسب وصف مدير أعمال مجموعة امتلاك العقارية، بدر الدين مارديني.
ويشير مارديني لـ"العربي الجديد" إلى أن الروس يأتون بالمرتبة الخامسة لجهة شراء العقارات بتركيا، والأولى بأنطاليا التي يتملكون فيها العقارات والفنادق والاستثمارات، ولكن مع نشوب الحرب، فربما نكون أمام ثنائية متناقضة، إذ يمكن أن يتراجع مبيع العقارات بتركيا بشكل عام، نتيجة التأثر بالحرب، ولكن بالوقت نفسه، قد نرى زيادة مبيع العقارات للروس وحتى الأوكرانيين، الهاربين من الحرب أو الساعين لمناخ أكثر أمناً واستقراراً.
كذا، بدأت الآثار على تركيا تباعاً مع إلغاء جميع الرحلات الجوية إلى أوكرانيا، مع توقعات بارتفاع أسعار النفط والغذاء، رغم تطمينات رئيس مجلس إدارة الحبوب التركي، أوزكان طاش بينار الذي قال فور الهجوم والتخوّف من إمدادات القمح: "تركيا دولة تتمتع باكتفاء ذاتي من القمح، المعدل الوسطي لحاجة السوق المحلية من القمح يبلغ 20 مليون طن، وهذه الكمية يتم إنتاجها محليا".