المؤكد أن هناك خلافات عميقة بين الحكومة المصرية وصندوق النقد الدولي، هذا الخلاف يمكن أن تلمحه بوضوح في تصريحات الطرفين حول كيفية تنفيذ الشروط المفروضة على القاهرة من المؤسسة المالية مقابل الحصول على قرض بقيمة 3 مليارات دولار، ومليار آخر استثنائي، على فترة زمنية تمتد إلى 46 شهراً.
وما يحاول الصندوق تسويقه من تلكؤ القاهرة في تنفيذ الشروط التي قطعتها على نفسها نهاية العام الماضي يدل على ذلك، حيث يتحدث الصندوق عن مخالفة الحكومة تعهداتها حيث أبقت على سياسة تثبيت سعر الصرف داخل الأسواق المصرية.
وهناك تباطؤ في برنامج الطروحات الحكومية، واستمرار سياسة احتكار الدولة وأجهزتها السيادية للأنشطة الاقتصادية من وجهة نظر مسؤولي صندوق النقد.
الصندوق لديه أجندة شبه موحدة يحاول فرضها على الدول التي تلجأ للحصول على قروضه ومساعداته النقدية بغض النظر عن ظروفها المالية الاقتصادية وطبيعة مواردها
الصندوق لديه أجندة شبه موحدة يحاول فرضها على الدول التي تلجأ للحصول على قروضه ومساعداته النقدية بغض النظر عن ظروفها المالية الاقتصادية وطبيعة مواردها.
أبرز تلك الشروط تعويم متواصل للعملة المحلية ومنح مرونة أكبر لسعر الصرف المحلي، وزيادة أسعار الوقود من بنزين وسولار وغاز منزلي، عبر خفض الدعم الحكومي المقدم تمهيدا لإزالته كاملا، وزيادة أسعار الكهرباء والمياه والخدمات الأساسية، والإسراع في بيع أصول الدولة، وزيادة سعر الفائدة على العملة المحلية، وتخارج الدولة من الأنشطة الاقتصادية.
إضافة إلى شروط أخرى ربما تكون غير معلنة أو معروفة للرأي العام، بل ويتم نفيها من وقت لأخر، منها الضغط المتواصل لوقف الدعم المقدم لرغيف الخبز والسلع الغذائية، وبالتالي رفع أسعارها بشكل متواصل، ومحاولة التدخل في تحديد مخصصات الدولة الموجهة لأغراض التعليم والصحة والبرامج الاجتماعية وغيرها.
في المقابل، ترى الحكومة المصرية أن تطبيق تلك الشروط من الممكن أن تكون له آثار اقتصادية وسياسية واجتماعية مدمرة، فالتعويم يعقبه تعويم جديد، وهنا يفقد المواطن ثقته في عملته المحلية، وتتعمق ظاهرة "الدولرة"، خاصة مع استمرار أزمة شح الدولار والفجوة التمويلية وتعدد أسواق الصرف وتغول السوق السوداء للعملة.
كما أن الإسراع في بيع أصول الدولة يعني التفريط في الشركات والبنوك العامة الثمينة والمدرة لأرباح وإيرادات ضخمة للخزانة العامة بثمن بخس، وهو ما يمثل إهدارا للمال العام، بل وفسادا واضحا.
والنتيجة النهائية هي تعمّق الخلاف بين الطرفين، وتأجيل تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي المصري الجديد والذي يتضمن قرضا قيمته 3 مليارات دولار، وتأجيل زيارة البعثة الفنية لصندوق النقد المقرر إيفادها للقاهرة إلى وقت لاحق ربما شهر سبتمبر المقبل.
الصندوق يضغط بكل الطرق على الحكومة المصرية المطالبة بسداد ملياري دولار قيمة أعباء دين خارجي مستحق قبل نهاية الشهر
علما أن هذه البعثة كان من المقرر أن تزور العاصمة المصرية في مارس الماضي لإجراء المراجعة الأولى للبرنامج، على أن يعقب المراجعة إفراج الصندوق عن الشريحة الثانية من القرض البالغ قيمتها 354 مليون دولار، وهي تقارب قيمة الشريحة الأولى.
الصندوق من جانبه يضغط بكل الطرق على الحكومة المصرية المطالبة بسداد ملياري دولار قيمة أعباء دين خارجي مستحق قبل نهاية الشهر الجاري، ومطالبة كذلك بتدبير نحو 5 مليارات دولار في حال الإقدام على تعويم جديد للعملة المصرية، ومطالبة أيضا بسداد عشرات المليارات من الدولارات خلال الأعوام القلية المقبلة.
والعمل على حل أزمة الواردات العالقة في الموانئ والبالغ قيمتها 5.5 مليارات دولار، إضافة إلى حل أزمة العجز في الأصول الأجنبية داخل القطاع المصرفي، والبالغ قيمتها 24.3 مليار دولار، وفق أحدث الأرقام الرسمية.
لكن يبقي السؤال: ما الذي يجبر القاهرة على الاستجابة لتلك الشروط المجحفة من صندوق النقد الدولي بحق المواطن المصري والاقتصاد والعملة، بل والسيادة الوطنية؟
هل الحصول على قرض من الصندوق تقل قيمته عن 65 مليون دولار شهريا، وبما يعادل 3 مليارات دولار على 46 شهرا، يعادل كل هذه الفاتورة السياسية والاجتماعية المكلفة، وعناء المفاوضات والشروط المذلة، وحدوث اضطرابات متواصلة في الأسواق، وضغوطا غير مسبوقة على المواطن والعملة المحلية والدين العام، وزيادات غير مسبوقة في معدلات التضخم الأساسية والتي تجاوزت 40%، وفق أرقام البنك المركزي؟
أسئلة تُطرح.. علماً أن دخل قناة السويس الشهري بات يعادل أكثر من 10 أضعاف قيمة قرض الصندوق الشهري، حيث بلغت إيرادات القناة 9.4 مليارات دولار في العام المالي 2022-2023، بزيادة 35% مقارنة بـ2021-2022 الذي بلغت إيراداته 7 مليارات دولار، وبما يعادل 783 مليون دولار شهريا.
هل الحصول على قرض من الصندوق تقل قيمته عن 65 مليون دولار شهريا، يعادل كل هذه الفاتورة السياسية والاجتماعية المكلفة
الحكومة المصرية يمكنها إلغاء الاتفاق الحالي مع الصندوق، إن أرادت، بسبب مخاطره الشديدة على السلم المجتمعي، فالفاتورة مكلفة جدا، وما يتم ترويجه من أن قرض الصندوق هو شهادة ثقة للاقتصاد ويعمل على جذب الاستثمارات الخارجية ويزيد الصادرات والإيرادات الدولارية للدولة هو نوع من الوهم الذي حاولت الحكومات المصرية المتعاقبة تسويقه خلال السنوات الماضية ومنذ التعويم الأول الذي جرى العام 2016.
فعقب تعويمات عدة للجنيه جرت على مدى السنوات السبع الماضية منها 3 تعويمات في أقل من عام لم نشهد قفزات في إيرادات الاستثمارات الأجنبية المباشرة مثلا، ولا في الإيرادات السياحية والصادرات، حتى تحويلات العاملين في الخارج تراجعت بشدة بسبب التخفيضات المتواصلة في قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار.
القاهرة تستطيع تدبير هذه القروض المتعثر وصولها من الصندوق، والحصول على نقد أجنبي غير مكلف يعادل أضعاف قرض الصندوق إذا نشطت إيراداتها الحقيقية من النقد الأجنبي، خاصة من قطاعات حيوية كالصادرات والاستثمارات الأجنبية وتحويلات المغتربين والسياحة وقناة السويس، ودعمت السلم المجتمعي، وأقنعت أصحاب المدخرات بضرورة إعادة أموالهم الدولارية إلى البنوك.
وكثفت الاتصالات مع الصناديق السيادية الخليجية والمستثمرين العرب على ضخ مزيد من الأموال في مصر، ليس في صورة شراء أصول فقط، لكن ضخ سيولة في شرايين الاقتصاد وإقامة مشروعات صناعية وإنتاجية تساهم في توفير فرص عمل لملايين الشباب وتحد من الواردات وترفع من قيمة الصادرات السلعية والخدمية.
على الحكومة الاعتماد على الموارد الذاتية، وحسن إدارة الإيرادات المتاحة، والتوقف عن الاستدانة الخارجية إلا لأغراض الضرورة القصوى
القاهرة باتت مخيرة بين أمرين: الاستدانة المتواصلة من صندوق النقد وغيره من الدائنين الدوليين، والاعتماد على القروض الخارجية في سد الفجوة التمويلية وعملية التنمية وتمويل مشروعات البنية التحتية من عاصمة إدارية جديدة وقطار كهربائي ومدن عمرانية، وبالتالي الغرق في بحر الديون الخارجية، وتوجيه موارد الدولة لسداد أعباء الديون، وبالتالي إهمال قطاعات حيوية مثل التعليم والصحة، وتكرار تجارب دول مثل الأرجنتين.
وإما الاعتماد على الموارد الذاتية، وحسن إدارة الإيرادات المتاحة، والتوقف عن الاستدانة الخارجية إلا لأغراض الضرورة القصوى، ولمشروعات تدر عائدا بالنقد الأجنبي، والمثل المصري الشهير يقول: "على قد لحافك مد رجليك".