ربما سيصبح "اليوان الرقمي"، الذي تعد الصين لإطلاقه هذا العام، المارد الجديد الذي سيحدث انقلاباً في النظام النقدي والمالي العالمي المبني منذ الحرب العالمية الثانية على الورقة الخضراء، وبالتالي ربما يهدد عرش الدولار وسيطرته على نظم التسويات وأسواق الصرف وإضعاف دوره في السياسة الخارجية الأميركية. وعلى الرغم من أنّ الصين لم تحدد بعد موعداً رسمياً لإعلان "اليوان الرقمي"، عملةً رسميةً للبلاد، فقد أجرت مجموعة من المشاريع التجريبية الناجحة للعملة الرقمية الجديدة، على الصعيدين المحلي والخارجي.
ويقول مسؤولون صينيون إنّ اليوان الرقمي سيعلن عن إطلاقه في الوقت المناسب، لكنّ محللين يرون أنّ الصين باتت على وشك إطلاق عملتها الرقمية. ونفذت الحكومة الصينية حتى الآن مجموعة من المشاريع التجريبية لاستخدام اليوان الرقمي في المدن الكبرى، إذ نفذ بنك الشعب الصيني (البنك المركزي الصيني) مشاريع تجريبية تقدر قيمتها بـ200 مليون يوان (نحو 30.4 مليون دولار) في العديد من المدن الكبرى، كما تجري السلطات النقدية الصينية حالياً تجربة لاستخدامه في تسوية الصفقات البينية مع جزيرة هونغ كونغ.
وعلى الصعيد العالمي، قالت صحيفة "ساوث تشاينا مورنينغ بوست" التي تصدر بهونغ كونغ، الخميس الماضي، إنّ البنك المركزي الصيني يتعاون حالياً مع كلّ من البنك المركزي بالإمارات العربية المتحدة والبنك المركزي في تايلاند، بشأن استخدام اليوان الرقمي في التسويات المالية والصفقات التجارية. كما أعلن البنك المركزي الصيني في مارس/ آذار الماضي عن مشروع مشترك مع جمعية الاتصالات العالمية، بين البنوك "سويفت" التي تنظم التسويات المالية. وحتى الآن، يرى المسؤولون الصينيون أنّ المشاريع التجريبية لاقت قبولاً كبيراً لاستخدام اليوان الرقمي.
في هذا الصدد، قال مدير وحدة الأبحاث في بنك الشعب الصيني (المركزي) وانغ شينغ إنّ "قبول السوق لليوان الرقمي قوي جداً، والكلّ مهتم به، وهذا الاهتمام يعود في جانب منه إلى أنّ العديد من البنوك المركزية في العالم تسعى لإطلاق عملات رقمية، ومن جهة أخرى يتعلق القبول بالارتفاع الكبير في سعر عملة بيتكوين"، وذلك وفقاً لما ذكرته قناة "سي إن بي سي" الأميركية.
على الصعيد المحلي، سيمكّن اليوان الرقمي الحكومة الصينية من السيطرة على السوق المالي والتدفقات المالية، ووضع يدها على تحركات المجموعات الثرية في البلاد. ويرى محللون أنّ هذا العامل يخيف الشركات وأثرياء البلاد من اليوان الرقمي.
وعلى صعيد التداعيات الدولية لليوان الرقمي، يرى محللون أنّه سيحدث هزة كبيرة في النظام النقدي العالمي، خصوصاً على مستوى قوة الدولار الذي يهيمن على نظام التسويات المالية والتجارية وتبادلات سوق الصرف العالمية. في هذا الشأن، يقول الاقتصادي والخبير المالي الأسترالي داريل غوبي: "اليوان الرقمي سيمنح الدولة بديلاً عملياً للدولار في نظام التسويات التجارية والمالية، كما يلغي تلقائياً تأثير الحظر المالي على الدول والشركات والتهديد بعزلها من النظام المالي العالمي". ويعلّل الاقتصادي غوبي ذلك بقوله: "ببساطة، فإنّ الدول والشركات تستطيع إجراء الصفقات المالية والتجارية عبر اليوان الرقمي، من دون المرور عبر الدولار كما يحدث حالياً... وبالتالي، فإنّ نفوذ الدولار في التسويات العالمية سيضعف تدريجياً مع إطلاق الصين رسمياً عملتها الرقمية".
وبينما يدعم اليوان الرقمي الثقل الاقتصادي والتجاري الصيني، فإنّه سيساهم كذلك، وبشكل سريع، في تعزيز العلاقات التجارية والمالية بين بكين والعديد من دول العالم، خصوصاً تلك التي تعاني من هيمنة الدولار وقوانين الحظر المالي التي استخدمتها إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بكثافة، خلال السنوات الأربع الماضية، ضد الأعداء والحلفاء معاً. وتقدّر الإحصاءات الصينية حجم التجارة الصينية في العام الماضي 2020 بنحو 4.658 تريليونات دولار، كما يقدّر البنك الدولي حجم الاقتصاد الصيني بنحو 14.658 تريليون دولار في العام 2020.
وبالتالي، يرى محللون أنّ العملة الرقمية الصينية، حينما تصبح عملة رسمية للبلاد، ستضرب عملياً "سلاح الدولار" كواحد من أهم آليات الحظر الأميركي على الدول والشركات. ويلاحظ في هذا الصدد أنّ هناك أكثر من 250 شركة صينية محظورة أميركياً، كما أنّ هناك العديد من المسؤولين الكبار في الصين وهونغ كونغ يعانون من الحظر، وترفض البنوك التجارية التعامل معهم خوفاً من العقوبات الأميركية. وكلّ ذلك سينتهي مع العملة الرقمية، التي سيصعب تعقب تعاملاتها.
وعلى الرغم من أنّ الحظر الأميركي على الدول والشركات العالمية يكون في كثير من الأحيان من جانب واشنطن فقط، فإنّ المصارف التجارية العالمية تتخوف من الحظر الثانوي، الذي يعرّضها للمعاقبة والحرمان من السوق الأميركية، في حال تعاملها مع المؤسسات والشخصيات المحظورة أميركياً. والحظر الثانوي يستخدم الحرمان من المتاجرة في السوق الأميركية الضخمة والمربحة في آن معاً. إذ يقدر حجم سوق "وول ستريت" بأكثر من 50 تريليون دولار، كما أنّ سوق السندات الأميركية تقدّر بنحو 45 تريليون دولار. وبالتالي، فإنّ المصارف ترجح مصلحتها في السوق الأميركية على إجراء صفقات محظورة.
وهناك نحو 21 ألف مصرف في العالم تستخدم الدولار في تسوية الصفقات التجارية والتعاملات المالية، وكلّها تتخوف من الحظر الثانوي. وتستطيع وزارة الخزانة الأميركية تجميد حسابات للشركات والمسؤولين في أيّ دولة من دول العالم، أو حتى مصادرتها من جانب واحد، عبر هيمنتها على النظام المالي العالمي. بالتالي، يرى محللون أنّ هيمنة الدولار على النظام المالي العالمي يعدّ من أهم الأدوات التي تعتمد عليها الولايات المتحدة في إدارة دفة العالم، وإخضاع الدول لسياستها الخارجية، وذلك إلى جانب القوة العسكرية. وبالتالي، فإنّ صدور اليوان الرقمي سيقلص هيمنة الدولار على التسويات المالية، إذ إنّ تعاملاته لن تكون خاضعة لرقابة الحكومة الأميركية. وستتمكن دول، مثل إيران وفنزويلا وكوريا الشمالية وروسيا، والعديد من الشركات العالمية، من النفاذ من الحظر الأميركي عبر التعامل مع البنك المركزي الصيني، من دون المرور بعملة ثالثة.
وتشير بيانات صندوق النقد الدولي إلى أنّ حصة الدولار تراجعت في العام الماضي 2020 إلى 59% من احتياطي البنوك المركزية العالمية بالعملات الصعبة، وهو أدنى مستوى للدولار منذ 25 عاماً. لكن، في المقابل، فإنّ حصة اليوان الصيني ما زالت ضعيفة جداً في احتياطات العالم من العملات الصعبة، ويقدّرها صندوق النقد بنحو 2.3%. على صعيد تسوية الصفقات التجارية والمالية، ما زال الدولار هو المهيمن، إذ تبلغ حصته نحو 90%.
لكن، كيف تخطط السلطات النقدية الأميركية لمواجهة تحديات العملة الصينية الجديدة؟ على الصعيد الأميركي، تدرس الولايات المتحدة مواجهة التحدي الذي يمثله اليوان الرقمي لهيمنتها على النظام العالمي بإصدار "دولار رقمي"، لكنّ مشروع العملة الرقمية الأميركية ما زال في طور الدراسة، وربما يتطلب سنوات لإطلاقه، حتى في حال موافقة الكونغرس على المشروع. في هذا الشأن، نسبت صحيفة "وول ستريت جورنال"، أول من أمس الاثنين، إلى كلّ من وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين، ورئيس مجلس الاحتياط الفدرالي (البنك المركزي الأميركي) جيروم باول، قوله إنّ "الموضوع تحت الدراسة، بما في ذلك جدوى إصدار دولار رقمي من عدمه".
ويرى محللون أنّ تداعيات اليوان الرقمي على الدولار ستكون خطرة وشبيهة بالتداعيات التي تركتها شركة "أمازون" على تجارة التجزئة، إذ أدت إلى إفلاس العديد من سلاسل المتاجر في أميركا وأوروبا، أو الدمار الذي أحدثته شركة "أوبر" على سوق التاكسي في العالم. لكن، على الرغم من هذه المخاوف من تداعيات اليوان الرقمي، يرى محللون ماليون أنّ الدولار واجه تحديات كبرى في السابق وتغلب عليها، من بينها صدور العملة الأوروبية الموحدة؛ اليورو.