بينما كانت ممالك النفط العربية وإماراتها سعيدة بارتفاع أسعاره مع بدء اشتعال المواجهات في غزة، تحاول في كتمان عد مكاسبها من الحرب التي تخطف أرواح الآلاف من إخواننا المرابطين في فلسطين، كان هناك بلد صغير فقير، لم تمنعه أزماته من تقديم الدعم والتضامن مع المقهورين في القطاع المحاصر.
بعد بدء الأحداث مباشرة، انخرطت الحكومة التي يقودها أنصار الله، المعروفين إعلامياً باسم الحوثيين، ولأول مرة، بشكل مباشر في توجيه ضربات ضد الاحتلال الصهيوني، انطلقت من أراضي اليمن الذي كان يوماً ما سعيداً.
انتقلت اليمن بسرعة من مرحلة التهديد إلى إطلاق صواريخ وطائرات بدون طيار باتجاه مدينة إيلات الإسرائيلية (أم الرشراش)، وأعقب ذلك تحول استراتيجي إلى العمليات البحرية ضد السفن المرتبطة بدولة الاحتلال. وكان اللافت للنظر أن هذا التصعيد توج بما يعتقد أنه المحاولة الأولى لاستهداف سفينة عسكرية أميركية بالصواريخ.
ومنذ التحذير الذي وجهه زعيم أنصار الله عبد الملك الحوثي للولايات المتحدة، تزايدت أنشطة المقاومة في اليمن، وامتدت من أم الرشراش إلى البحر الأحمر، ومضيق باب المندب، وخليج عدن.
ترددت أصداء التداعيات في إعادة حسابات الولايات المتحدة السياسية والأمنية في جميع أنحاء المنطقة بأكملها. ولعل الأهم من ذلك هو أن هذه الإجراءات أجبرت دولة الاحتلال على إعادة تقييم خسائرها الاقتصادية وتكاليف الحرب الطويلة.
وكانت من التداعيات الاقتصادية حادثة ملحوظة تتعلق بسفينة الحاويات زيم يورب، التي تديرها شركة الشحن الإسرائيلية زيم. وبسبب التهديدات اليمنية ضد السفن المرتبطة بالاحتلال، اضطرت السفينة للانحراف عن مسارها المخطط له عبر قناة السويس/باب المندب.
اضطرت سفينة زيم يورب للإبحار في رحلة بحرية أطول بنسبة 56%، دارت فيها حول أفريقيا، عبر المحيط الأطلسي ورأس الرجاء الصالح، ما عكس العقبة الاقتصادية واللوجستية التي تواجهها الآن شركات الشحن الإسرائيلية.
وفي الوقت نفسه، أفادت القيادة المركزية الأميركية أنه جرى إطلاق صاروخين باليستيين من المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون في اليمن باتجاه الموقع العام لحاملة الطائرات الأميركية. ووقعت هذه الحادثة في خليج عدن، ضمن ما وصف بمهمة إنقاذ سفينة الشحن سنترال بارك التي تديرها شركة زودياك مارين، والمملوكة للملياردير الصهيوني إيال عوفر.
ومع بساطة العمليات التي تقوم بها القوات اليمنية، كانت هناك نتائج إيجابية على المستوى الاستراتيجي، ساعد على تحقيقها وضع أنصار الله، الذي جعلهم خارج نطاق أي هدنة مؤقتة معلنة في غزة. وأسقطت القوات اليمنية طائرة أميركية بدون طيار في المياه الإقليمية اليمنية في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني، فيما اعتبر أول اشتباك مباشر بين القوات اليمنية والقوات الأميركية!
وتصاعدت تكلفة الحرب بشكل كبير بالنسبة لحكومة الاحتلال، وكانت الحسابات المتفائلة في أوائل نوفمبر الماضي تشير إلى أن حرباً مدتها ثمانية أشهر على جبهة غزة فقط ستكلف تل أبيب أكثر من 50 مليار دولار، بما يوازي 10% من الناتج المحلي الإجمالي لحكومة الاحتلال. لكن مراكز الأبحاث التي تحاول تقييم الأمور بموضوعية اعتبرت هذا الرقم غير واقعي، لأن جيش الاحتلال منخرط بالفعل في قتال على حدوده الشمالية مع حزب الله، كما وسع نشاطه العسكري بشكل كبير في الضفة الغربية المحتلة.
وعلاوة على ذلك، فإن هذه الحسابات لا تأخذ في الاعتبار التكاليف غير العادية المرتبطة بتعطيل التجارة، حيث يمر نحو 99% من تجارة دولة الاحتلال عبر الممرات المائية، وتشمل الواردات جزءاً كبيراً من الإمدادات الغذائية للبلاد، مما لا يمكنها إنتاجها.
وتقول مجلة "فورين بوليسي"، إن موانئ روسيا وأوكرانيا على البحر الأسود فقط هي التي تتحمل حالياً علاوات مخاطر حرب أعلى من تلك التي يتحملها ميناء أشدود الإسرائيلي. وفي حالة تصاعد الصراع مع حزب الله، فإن ذلك سيؤدي إلى تعقيد أمور ميناء حيفا الإسرائيلي هو الآخر.
ولكل هذه الأمور تداعيات دولية واسعة النطاق أيضاً، فتعطيل حركة المرور التجارية بين قناة السويس وباب المندب لا يفرض ضغوطاً على إسرائيل فحسب، حيث إن ما يقرب من 12% من التجارة العالمية سنوياً، ويشمل ذلك حمولة نحو 21 ألف سفينة، بالإضافة إلى 6 ملايين برميل من النفط يومياً، تمثل 9% من إجمالي تجارة النفط المنقولة عن طريق البحر، تعتمد على هذا الطريق.
ويعد باب المندب حلقة وصل حيوية في التجارة بين شرق وغرب آسيا وأوروبا. ويلعب ميناء إيلات، الذي يتمتع بموقع استراتيجي على البحر الأحمر، دوراً رئيسياً في هذه الحركة التجارية، كونه يربط دولة الاحتلال بأسواق شرق آسيا.
وتزايد دور هذا الميناء بعد توقيع اتفاقات التطبيع بوساطة أميركية مع الإمارات والبحرين قبل ثلاث سنوات، حيث جرى الاتفاق على نقل شحنات النفط الخام الإماراتي إلى إيلات، ليتم نقلها عبر خط أنابيب عسقلان، أي من البحر الأحمر إلى البحر الأبيض المتوسط.
كما أن الهجمات الصاروخية، وطلعات الطائرات بدون طيار الأخيرة على ميناء إيلات، لا تقوض أمن الاحتلال فحسب، بل تقوض طموحاته الاقتصادية، بما في ذلك حركة السياحة الحيوية التي تساهم بشكل كبير في إيراداته.
ويتجلى التأثير المباشر للهجوم اليمني على التجارة البحرية للاحتلال في الارتفاع السريع في تكاليف النقل. وقد تحتاج السفن التابعة للكيان إلى تجنب البحر الأحمر وباب المندب تماماً، أو اختيار طرق أطول حول إفريقيا، أو اللجوء إلى النقل الجوي الأعلى تكلفة. ومن المرجح أن تستمر رسوم شركات التأمين، وخاصة على السفن الإسرائيلية، أو تلك التي تنقل البضائع المخصصة لدولة الاحتلال، في الارتفاع.
كل ذلك يظهر لنا ما فعله اليمن الصغير العنيد، غير السعيد، في هذه الأيام القليلة، من رفع لتكلفة الحرب على إسرائيل، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عما يمكن أن تحدثه القوى الكبرى العربية، صاحبة الإمكانات البشرية والمادية والعسكرية الأكبر، من تأثير فيما يحدث في غزة، إن هي أرادت فقط.