على حد علمي، لم أسمع عن إطلاق رئيس مجلس الاحتياط الفيدرالي (محافظ البنك المركزي الأميركي)، جانيت يلين، "نكتة سخيفة" مفادها أن سعر الدولار سيصل إلى 5 يورو أو إلى 10 جنيه إسترليني خلال الفترة المقبلة، وذلك خلال حوار لها مع شبكة CNN، بل إن تصريحات السيدة لوسائل الاعلام تكاد تكون نادرة أصلا ولا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة منذ أن تولت منصبها بداية عام 2014، إذ إن إفادات "يلين" عن أي شيء يتعلق بإدارة السياسة النقدية وأسواق الصرف تتم أمام الكونغرس وليس أمام الكاميرات وعدسات الصحفيين.
ولم نقرأ يوماً أن محافظ بنك إنكلترا المركزي، مارك كارني، "يلسن" على حكومة دولة أوروبية هاجمت قرار الناخبين البريطانيين الانفصال عن الاتحاد الأوروبي في استفتاء "البريكست" الشهير، أو أن المحافظ البريطاني خرج علينا بتصريح ناري يتوقع فيه تحسن سعر صرف الجنيه الإسترليني أمام الدولار واليورو خلال فترة خروج بلاده من الاتحاد الأوروبي.
وربما لا يعرف الكثير منا اسم محافظ البنك المركزي الألماني، ينس فايدمان، بسبب تصريحاته النادرة لوسائل الاعلام، أو يعرف صورة محافظ المركزي السويسري توماس جوردان.
ولم تنشر جريدة "صن" البريطانية الشهيرة في يوم ما قصة مثيرة لمحافظ البنك المركزي الياباني هاروهيكو كورودا تسرد فيها تفاصيل حياته الخاصة، وكيف يقضي وقته في أيام الاجازة، وما هي الأنشطة الرياضية المفضلة له.
ورغم خروج محافظ البنك المركزي الأوروبي، ماريو دراغي، لوسائل الاعلام من حين لأخر بسبب الدور الذي يقوم به البنك في التخفيف من أثار الأزمة المالية التي تمر بها منطقة اليورو منذ عام 2010 وحتى الآن، الا أن مجلة شهيرة لم تختر دراجي غلافا لها ينافس صور نجوم السينما والفن والرياضة.
محافظ البنك المركزي في أي دولة هو ذلك الشخص الذي يحسب له الجميع ألف حساب، فلا يجوز عزله من منصبه، وهو مستقل عن الأجهزة التنفيذية والتشريعية بحكم القانون، وتبعيته تكون إما للبرلمان أو لرئاسة الدولة مباشرة، ولا يجوز استجوابه من قبل الحكومة، وفي حال وجود استفسار من الحكومة أو الرأي العام حول قرار ما أو سياسة محددة، فإن المحافظ يمثل أمام لجنة برلمانية ليدلي ببيان مكتوب، لا ليجيب عن أسئلة النواب واستفساراتهم.
محافظ البنك المركزي يترأس غالباً وزراء المجموعة الاقتصادية في الاجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدوليين أو مجموعتي الثماني والعشرين، وفي حال اجتماع رئيس الدولة مع أعضاء حكومته يكون المحافظ هو أقرب الأشخاص له جلوساً، بل يسبق اسمه اسم رئيس الوزراء من ناحية البروتوكول والبيانات الرسمية .
كلمته هي الأولي في إدارة الاقتصاد، فهو صاحب الكلمة الفصل في إدارة السياسة النقدية والاقتصادية، كلامه بحساب وتصرفاته تقاس بميزان دقيق، عندما يحدث خلاف بين المحافظ ووزراء المالية والتجارة والصناعة وغيرهم من المجموعة الوزارية الاقتصادية فإن الكلمة الفصل تكون للمحافظ حسب القانون والأعراف.
هو رمانة الميزان للاقتصاد، فقراراته تحدد مستوى "البنكنوت" والسيولة في المجتمع، كما تحدد المستوى العام للأسعار ومعدلات النمو والتضخم، قراراته تساعد الوزارات المختلفة في الحد من أزمات الاقتصادية مثل البطالة والأجور، وتساعد في زيادة فرص التشغيل وتقليص التضخم.
ولذا لا يجوز لمحافظ البنك المركزي الظهور في الأماكن العامة، أو في مواقع لا تليق بموقعه الحساس، ولا يجوز له الدخول في صدامات مع مجتمع المال والاعمال، أو يشتبك مع مؤسسات الدولة خاصة الوزارات الاقتصادية مثل المالية، أو يقوم بالتحدث لوسائل الاعلام ليل نهار، ولا يجوز له الجلوس على مقاهي شعبية، أو ابداء وجهة نظره في خلاف سياسي، أو الانغماس في المشاكل السياسية أو الانتماء لأحزاب أو تأييد قوى سياسية محددة.
ولا يجب أن تلاحق محافظ البنك المركزي في أي دولة شائعات أو يسهر مع شلة بسبب حساسية موقعه، فحياته واضحة أمام الجميع وضوح الشمس لا لبس فيها ولا علامات تعجب واستفهام.
وبسبب كل هذه المزايا المعنوية والأدبية التي يحصل عليها فإن الأعراف المصرفية والتقاليد تفرض على محافظي البنوك المركزية قيوداً شديدة، فكلامهم يجب أن يكون نادرا، ولذا قد تمر شهور طويلة وربما سنوات دون أن نسمع تصريحاً واحداً للمحافظ، وإذا أراد التحدث، فالأفضل إصدار بيان مكتوب بعناية وتدقيق شديد وبعد مراجعته من عدة جهات أبرزها السياسة النقدية والرقابة على النقد.
ولذا لم نسمع عن محافظ بنك مركزي يلقي النكات ويوزع "القفشات" على مواطنيه، خاصة إذا كان هؤلاء يعانون أزمات اقتصادية طاحنة وينتظرون كلمة مطمئنة على مستقبلهم ومستقبل أولادهم ومدخراتهم.
هذه هي القواعد التي تحكم وظيفة محافظي البنوك المركزية، يتساوى في ذلك المحافظ في الدول المتقدمة كالولايات المتحدة واليابان وألمانيا أو في الدول الفقيرة مثل أفريقيا.