منذ ما يزيد عن عقد ونصف، تم طرح قضية عدم مواءمة الدولار كعملة دولية لتسوية المعاملات التجارية والمالية الدولية، لما تسببه السياسات المالية والنقدية الأميركية من أزمات للنظام المالي العالمي، أو ما يسميه البعض بتصدير أميركا لمشكلاتها الاقتصادية لباقي دول العالم.
وواكب هذه المطالب، بالبحث عن عملة دولية أخرى، أن حدثت تغيرات ملموسة في خريطة القوى الاقتصادية الدولية، حيث صعدت الصين اقتصاديا بشكل كبير لتتجاوز الاتحاد الأوروبي واليابان، وتحتل المرتبة الثانية على صعيد الناتج المحلي العالمي.
فقاعدة بيانات البنك الدولي، تظهر الفارق بين الناتج المحلي الإجمالي بين أميركا والصين، خلال الفترة من 2008 - 2021، ففي عام 2008 كان الناتج الخاص بأميركا 14.7 تريليون دولار، وللصين 4.59 تريليونات دولار، أي وجود فارق يزيد عن 10 تريليونات دولار لصالح الولايات المتحدة.
وفي عام 2021 بلغ الناتج المحلي الأميركي 23.3 تريليون دولار، والصين 17.7 تريليون دولار، أي أن التفوق الأميركي يتقلص، حيث بلغ 5.6 تريليونات في هذا العام. وهناك توقعات بأن تتجاوز الصين أميركا من حيث قيمة الناتج خلال سنوات معدودات، لتكون الاقتصاد الأول في العالم.
خطوات حثيثة
مطالبة الصين ودول أخرى في قمة مجموعة العشرين التي عقدت بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، بالبحث عن عملة بديلة للدولار لتسوية المعاملات الدولية، لم تلق قبولًا من قبل الولايات المتحدة، إلا أن ذلك لم يثن الصين ومعها بعض الدول المتضررة من السياسات الأميركية، من اتخاذ خطوات من شأنها زعزعة مكانة الدولار، فتمت بالفعل الدعوة وتفعيل استخدام العملات المحلية في التبادل التجاري.
وكانت الخطوة الأخيرة، من إعلان كل من الصين والبرازيل، باستبعاد الدولار من تعاملاتهما التجارية، ذات دوي على الصعيد العالمي، لما يمثله الاقتصادان من مكانة على الصعيد الدولي، وإن كان حجم التبادل التجاري بين البلدين لا يتجاوز 150 مليار دولار.
كما أن البلدين مستمران في التعامل بالدولار في التعاملات مع باقي دول العالم، ولكن خطوة استبعاد الدولار من التعاملات البينية لكل من الصين والبرازيل، هي خطوة يُبتغى بها هز عرش الدولار، والسعي بخطى عملية لإزاحة العملة الأميركية كعملة رئيسة في تسوية المعاملات المالية والتجارية على مستوى العالم، وهي خطوة لا تخفى دلالاتها السياسية.
مستقبل الدولار واليوان
لا يزال الدولار يسيطر على قرابة 60% من التعاملات المالية والتجارية على مستوى العالم، وبلا شك إن ما يتم من خطوات لاستبعاد الدولار من المعاملات التجارية، التي تتم من بعض الدول، وبخاصة من قبل الصين وروسيا، سيكون لها أثرها خلال السنوات القادمة.
ولكن ثمة علاقات معقدة، تخص الصين على وجه التحديد، في مسألة سعيها لإزاحة الدولار، فهناك قرابة 3.133 تريليونات دولار قيمة الاحتياطيات النقدية الأجنبية لديها، كما تمتلك قرابة تريليون دولار استثمارات في السندات الأميركية. فهل ستضحي الصين في الأجل القصير، بتلك الأموال، في معركتها لإزاحة الدولار؟ أم ستحتاج لبعض الوقت لتحويل تلك الأموال إلى أصول وعملات أخرى؟
سيحكم هذا الأمر المصالح المشتركة للصين مع أميركا وأوروبا، فهما يمثلان كتلة كبيرة من المعاملات التجارية والمالية للصين، ومن الصعب أن تفرط الصين في مصالحها معهما، أو أن تجد بديلًا تجاريًا لهما في الأجل القصير، وهو ما يجعل خطى توسيط العملات المحلية للصين وروسيا في المعاملات التجارية، واستبعاد الدولار، مجرد أوراق ضغط سياسية، ومحاولة لاستنزاف كل طرف للأخرى، وإرسال رسائل، بأن هناك ما يمكن أن يعيد رسم خريطة القوى الاقتصادية الكبرى.
أما اليوان، كعملة للصين، فهو يشهد تصاعدًا منذ اعتماده كعملة دولية من قبل صندوق النقد الدولي في عام 2016، ولكن لا يزال يشكل نسبة محدودة من التعاملات المالية التجارية العالمية، بما يساوي من 5% - 7%، تقريبًا.
كما أن بعض الخطوات التي اتخذتها بعض الدول، للاحتفاظ باليوان كعملة احتياطيات في سلتها للعملات الأجنبية، أو إزاحة اليوان للدولار في روسيا مؤخرًا، بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، أو قيام السعودية ببيع بعض شحناتها النفطية للصين باليوان، من شأن هذا كله أن يحسن من وضع العملة الصينية، وإن لم يكن للدرجة التي تجعله ندًا للدولار، أو بديلًا له.
ويواجه اليوان كعملة دولية مجموعة من التحديات، منها غياب الشفافية في ما يتعلق بالبيانات المالية للصين، ووجود الدولة الديكتاتورية هناك، وغياب دولة القانون، وبالتالي فسيكون الدولار عملة دولية، على الأقل حتى عام 2050، ما لم تشهد أميركا هزات اقتصادية عنيفة، أو أن تتجاوزها الصين في معركة التكنولوجيا.
مستصغر الشرر
لم تستقر الأوضاع بعد للعملات المشفرة في السوق الدولية، فهي تمر بتقلبات عنيفة، ولا يزال اعتمادها كمجرد عملة شديد المحدودية، فلم تقدم على هذه الخطوة سوى السلفادور، التي اعتمدت "بيتكوين" كعملة بجوار الدولار.
وإن كان على صعيد آخر، يسعى عدد غير قليل من الدول لتفعيل العملات الرقمية، التي تكون تحت سيطرة الحكومات من حيث الإصدار والتداول، ولكن حقيقة الأمر أن الجميع لديه رغبة في التخلص من عقدة الدولار، وإن كانت المصالح السياسية والاقتصادية مع أميركا ما زالت مسيطرة.
فالعملات المشفرة، أو الرقمية، سيكون لها دور خلال العقدين القادمين على الأقل، وإن كان هذا الدور، ليس بالضرورة بديلا للدولار، ولكن هذه العملات ترسخ أقدامها مع الوقت، والعاملون فيها يسعون لحل ما يحيط بها من مشكلات تقنية وقانونية، مما يكسبها قبولًا اقتصاديًا واجتماعيًا يومًا بعد يوم.
لكن هذه العملات، على الرغم مما يحيط بها من مشكلات، إلا أنها تمثل مخرجًا للأفراد والدول من سيطرة الدولار، أو غيره من العملات، حتى لو كانت العملة الصينية مستقبلًا. قد يستمر تطور وجود هذه العملات على صعيد الاقتصاد العالمي بطيئًا، ولكن يومًا ما سيكون لها دور، ما لم تحجمها الدول وتعمل على تجريم التعامل بها، "ومعظم النار من مستصغر الشرر".
دوام الحال من المحال
قبل الخمسينيات من القرن العشرين، لم يكن للدولار وزن على الصعيد العالمي، لكن بعد أن انتهت الحرب العالمية الثانية، وأعيد رسم خريطة القوى الاقتصادية الدولية، لتصعد أميركا على حساب الجميع، كقوة اقتصادية وسياسية وعسكرية، أصبحت عملتها هي عملة التسويات الدولية، في إطار قبول عالمي لاتفاقية "بريتون وودز".
لكن أميركا على مدار العقدين الماضيين، تراجع وضعها الاقتصادي وضعُف، على الرغم من أنها ما زالت على قمة العالم اقتصاديًا، وإذا ما هزمت أميركا على صعيد التكنولوجيا، فسنكون أمام معطيات سياسية واقتصادية جديدة، تسمج بميلاد نظام نقدي عالمي جديد.
ونحسب أن ما يزيد عن 7 عقود من سيطرة الدولار على صعيد المعاملات الدولية، كافية لأن نرى تغيرًا، ولو جزئيا لعملات أخرى، أو نظامًا نقديا جديدًا، وبخاصة كما ذكرنا أن المعطيات الاقتصادية والسياسية تطورت، بما يسمح للتغيير.
وإذا ما كانت الصين، ومعها بعض الدول الراغبة في استبدال الدولار، لتحل محله عملة تقليدية أو رقمية أخرى، أن يكون لها اتحاد نقدي، أو على الأقل اتساع رقعة التبادلات والمصالح التجارية والاقتصادية، لتكون مجابهة لأميركا وأوروبا معًا. فأوروبا تعتبر أميركا امتدادًا حضاريًا لها، وستخوض معها معاركها التجارية والاقتصادية، ولعل موقف الجبهتين في الحرب الروسية على أوكرانيا خير دليل.