تعيش السعودية هذه الأيام ما يمكن أن نطلق عليه حالة الغموض السياسي أو عدم اليقين والتي تشهدها الدول عادة عندما تمر بقلاقل وأزمات سياسية أو أمنية أو اجتماعية أو اقتصادية، هذه الحالة طغت على المملكة عقب الكشف عن اغتيال الصحافي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول قبل أكثر من 50 يوما، وزادت حدتها عقب تأكيد وكالة المخابرات الأميركية (CIA) ومشرعين أميركيين أن ولي عهد السعودية محمد بن سلمان هو من أمر بقتل خاشقجي.
حالة الغموض أو عدم اليقين تلك هي الأخطر على الاقتصاد والدول والمجتمعات، لأن مؤشرات خطرة تصاحبها من أبرزها، انسحاب الاستثمارات الأجنبية من الدولة، تهريب رجال الأعمال أموالهم، تأجيل إقرار التشريعات والقوانين، تأجيل اتخاذ القرارات الاقتصادية والمالية المهمة من قبل الحكومات والمؤسسات المالية والمستثمرين على حد سواء، تأجيل تنفيذ المشروعات الكبرى خاصة متوسطة وطويلة الأجل.
ببساطة، ترك كل القرارات المهمة معلقة، فالجميع لا يعرف ماذا يحمل الغد من مفآجات داخل المملكة، ومتى سيتم إغلاق قضية خاشقجي، وأي السيناريوهات سيتم تطبيقها في حال معالجة الأزمة القائمة وتأثيراتها على دول المنطقة، وهل الحلول المطروحة سترضي كل أطراف الأزمة وفي المقدمة تركيا والسعودية والولايات المتحدة؟
ماذا سيحدث غداً؟
في ظل حالة الغموض السياسي التي تشهدها المملكة، حاليا يسأل المستثمر المحلي قبل الأجنبي: ماذا سيحدث غداً داخل الأوساط السياسية السعودية عقب ما كشفته المخابرات الأميركية من معلومات تتعلق بارتكاب ولي العهد جريمة القتل، هل ستتم إقالة محمد بن سلمان من ولاية العهد لأنه هو من أمر بالقتل، ومن الذي سيخلفه في منصبه؟
ماذا عن رد فعل الحكومة السعودية في حال فرض عقوبات اقتصادية وسياسية على المملكة من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا وغيرها، ماذا لو تم فرض حظر شامل على تصديرالأسلحة إلى المملكة؟
عقوبات غربية
ماذا لو هدد المشرعون الأميركيون بمسّ الاستثمارات السعودية في البنوك والأسواق الأميركية، أو تطبيق قانون جاستا والسماح لأسر ضحايا 11 سبتمبر بمقاضاة الحكومة السعودية أمام المحاكم الأميركية وطلب تعويضات بمليارات الدولارات كما حدث في قضايا التدخين الشهيرة، هل سيتوسع الكونغرس الأميركي في تطبيق قانون ماغنتسكي الدولي، أم سيقتصر الأمر على فرض عقوبات على 17 سعوديا متورطين في الجريمة؟
في هذه الحالة، هل ستلجأ السعودية لسلاح النفط مثلا في مواجهة العقوبات الغربية، وبالتالي يرتبك سوق النفط العالمي ويرتفع سعر البرميل إلى 100 دولار كما توقعت مؤسسات مالية دولية، أم سترد المملكة بأسلحة اقتصادية وتجارية ليس من بينها سلاح النفط.
بل يمكن أن تركز العقوبات السعودية المضادة على حظر إسناد صفقات أسلحة للدول الغربية التي تفرض عقوبات على المملكة وكذا على الشركات التابعة لها، وحظر استيراد السلع والخدمات من أسواق الدول التي تتخذ موقفا عدائيا من المملكة، وهذا الحظر قد يكون مؤلما لبعض الدول خاصة ونحن نتحدث عن واردات سعودية ضخمة تجاوزت قيمتها 134.5 مليار دولار في العام الماضي 2017.
وفي حال حدوث التغير داخل الأسرة الحاكمة السعودية، إن حدث كما يتوقع البعض، فما خطة ولي العهد الجديد؟ هل سيدخل تغييرات جوهرية على خطط البلاد الاقتصادية والمالية مثلاً؟
مستقبل رؤية 2030
ماذا عن مستقبل رؤية 2030 التي أطلقها محمد بن سلمان في العام 2016 وكان من أبرز ملامحها إجراء تنويع للاقتصاد والتخلي عن النفط كمصدر وحيد للإيرادات العامة، وزيادة الصادرات غير النفطية، والإسراع في بيع المرافق والهيئات والشركات التابعة للدولة؟
ماذا عن خطة بيع أسهم شركة أرامكو النفطية العملاقة في الأسواق الدولية والمحلية وتنشيط سوق المال السعودي؟ هل الحكومة ستواصل سياسة الخصخصة والسعودة والتخلص من الشركات وزيادة أسعار الخدمات العامة وخفض الدعم المقدم للمواطن؟
ماذا عن مشروع "نيوم" الواقع على البحر الأحمر وخليج العقبة بمساحة إجمالية تصل إلى 26500 كيلومتر مربع والذي اعتبره محمد بن سلمان بداية انتقال المملكة إلى المستقبل ورصد له استثمارات بقيمة 500 مليار دولار؟ وما موقف المستثمرين الأجانب الذين أعلنوا عن ضخ المليارات في هذا المشروع الاستثماري والسياحي الضخم في حال غياب محمد بن سلمان؟
وماذا عن مشروعات الترفية وتأسيس دور سينما ومسارح في المملكة؟ ماذا عن الاستثمارات الأجنبية الجديدة المقرر ضخها في قطاع الترفيه الذي وصفه محمد بن سلمان بأنه واعد وجذاب؟
عشرات الأسئلة التي ينتظر المستثمر المحلي قبل الأجنبي الإجابة عنها قبل الإقدام على اتخاذ أي قرار استثماري جديد داخل المملكة.
خسارات متواصلة
وإذا لم يتم القضاء بسرعة على هذه الحالة، فإن الاقتصاد السعودي سيخسر الكثير، كما خسر الكثير منذ اندلاع أزمة مقتل خاشقجي، وقبلها مغامرة حرب اليمن وحصار قطر، ذلك لأن هجرة الأموال إلى الخارج ستزيد في حال استمرار حالة عدم اليقين أكثر من اللازم، ومعها تهرب الأموال المحلية قبل الخارجية، وستفقد البلاد مليارات الدولارات التي تتدفق عليها في صورة استثمارات أجنبية سواء مباشرة أو غير مباشرة، وستتعرض البورصة لانتكاسات حتى ولو تم دعمها ومساندتها بأموال حكومية، فالقلق والترقب لا يصنعان استقراراً اقتصادياً.
وما حدث أمس الأحد يمكن أن يترجم حالة الغموض التي تشهدها المملكة؛ فعقب تأكيد المخابرات التركية أن بن سلمان هو من أمر بقتل خاشقجي، هبطت البورصة السعودية إلى أقل مستوى في شهر وخسرت الأسهم 2.2% من قيمتها السوقية، وسارع المستثمرون نحو بيع الأسهم التي بحوزتهم.
وإلى أن تنتهي حالة الترقب تلك، ستواصل البورصة والأسواق السعوية حالة التذبذب والنزيف والتي تنجم عنها خسارة للدولة والاقتصاد والمستثمر معاً.