مصر تودع عصر مجانية التعليم: قفزة في المصاريف

24 سبتمبر 2024
طلاب في مدرسة خاصة بالقاهرة (خالد دسوقي/فرانس برس)
+ الخط -

وسط مشاهد متناقضة، بدأ 25 مليون تلميذ وأكثر من مليوني طالب جامعي عاماً دراسياً جديداً في مصر. تتوجه الأغلبية نحو مدارس حكومية تغادر المجانية، المكفولة وفقاً للدستور، والتي تعاني منذ سنوات ندرة الإمكانات وشح المدرسين، وتكدساً مزمناً للطلاب داخل الفصول، أدى إلى تشغيل العديد منها ثلاث فترات على مدار اليوم.

تتعرض أعداد المدارس الحكومية للتراجع، مع رغبة الحكومة بالتوسع في خصخصة التعليم، حيث لجأت إلى إسناد مدارس النيل للغات إلى شركة خاصة، وعرضت مئات المدارس أمام المستثمرين لتوسيعها وإداراتها لفترة زمنية تصل إلى 30 عاماً، وفرضت أسعاراً جبرية على المدارس التي تساهم في تمويلها دول ومؤسسات أجنبية، بالتوازي مع زيادة عدد الجامعات الأهلية والبرامج الخاصة، في إطار تخلص الحكومة من أعباء التعليم.
 

قفزة في التكلفة

تزامناً مع صرخات المواطنين من زيادة تكلفة التعليم، في المدارس والجامعات الحكومية والخاصة، وارتفاع أسعار الملابس والأدوات الدراسية بمعدلات هائلة، والمواصلات وكافة السلع، تعد الحكومة بسياسات جديدة تستهدف استعادة المدارس دورها في صناعة أجيال قادرة على مواجهة المستقبل واحتياجات سوق العمل، وفقاً لتصريحات صحافية لوزير التربية والتعليم محمد عبد اللطيف.
توصلت وزارة التموين إلى اتفاق مع الغرف التجارية على تنظيم خمسة معارض رئيسية و50 معرضاً فرعياً، لبيع الأدوات والملابس المدرسية بأسعار مخفضة، خلال شهر سبتمبر/ أيلول الحالي، تركزت داخل العاصمة والمدن الكبرى، لم يصل صداها إلى المناطق الشعبية والنائية، التي تضم النسبة الأعلى من عدد طلاب المدارس الحكومية.

ترفع وزارة التربية والتعليم شعار "الانضباط" بالمدارس، مستهدفة عودة جاذبيتها ودورها في تربية للطلاب، مع بداية الأسبوع الأول للعام الدراسي، وربط الشعار بدفع الطلاب إلى المدارس مع زيادة الدرجات المقررة على الحضور، وإعادة الأنشطة المدرسية مع خفض الكثافة داخل الفصول وتخفيف المناهج الدراسية، ومحاربة الدروس الخصوصية، فإذا بها تقرر إعادة مجموعات التقوية داخل المدارس بأسعار مرتفعة لا تتناسب مع تلك السائدة للدروس الخصوصية بالمناطق الشعبية والمحافظات.
فرضت الوزارة 100 جنيه عن الحصة الواحدة في درس التقوية، بينما يبلغ متوسط سعر المادة بمعدل 12 حصة شهرياً لدى المدرسين الخصوصيين بالأرياف، ما بين 120 إلى 150 جنيهاً (الدولار = 48.5 جنيهاً).
استبقت الوزارة العام الدراسي بشن حملات مكثفة على مراكز الدروس الخصوصية، والهجوم على مقار المدرسين المعروفين بتنظيمهم حلقات تعليمية خاصة داخل منازلهم، فإذ بالحملات الأمنية تدفع إلى زيادة أسعار الدروس الخصوصية، مع إقبال أولياء الأمور على الاستعانة بمعلمي الدروس الخصوصية داخل منازل الطلاب، وتخفيض عدد المجموعات، بما يزيد من تكلفة الحصة والأعباء الملقاة على عاتق الأسر.
ارتفع سعر حصة الدرس الخصوصي بالمدن إلى 350 جنيهاً (تصل إلى 500 جنيه بمدارس اللغات الخاصة)، بينما مدرسو مناهج المدارس الدولية يعتمدون أسعاراً خاصة بكل مادة تشمل المنهج الدراسي، تتراوح ما بين 10 آلاف و20 ألف جنيه للمادة.

تراجع مخصصات التعليم

تتراجع مخصصات التعليم منذ عام 2015، من الموازنة العامة للدولة، وتزيد نسبتها إذا قيست بمعدل التدهور بقيمة الجنيه الذي انخفضت قيمته بنسبة 300% من 15.5 جنيهاً إلى 49 جنيهاً حالياً.
تشير بيانات حكومية إلى انخفاض مخصصات التعليم بالموازنة من 3.6% بالعام الدراسي 2015-2026، إلى 1.9% بموازنة 2023-2024.
تسبب التراجع في وجود عجز بعدد الفصول الدراسية بنحو 250 ألف فصل، وعدم قدرة الدولة على تعيين 450 ألف مدرس تحتاجهم وزارة التربية والتعليم، وتوقف بناء جامعات حكومية جديدة، لصالح بناء جامعات أهلية بمصروفات كلفت الموازنة العامة 39 مليار دولار حتى عام 2022، وفقاً لبيانات رسمية.
وفرضت الحكومة رسوماً على المدارس التي تبنيها اليابان لخدمة عامة المصريين مجاناً، تصل إلى 20 ألف جنيه، كما رفعت أسعار المدارس التجريبية وأحالت بعضها إلى مدارس دولية، رغم تخلصها من مدارس النيل الدولية التي أنشأت بدعم دولي بالإسناد المباشر، إلى شركة خاصة ضاعفت قيمة الرسوم السنوية، ثلاث مرات، قبيل العام الدراسي بأيام.
 

مصاريف جامعية بالدولار

تؤكد دراسة اقتصادية لمركز حلول للسياسات البديلة بالجامعة الأميركية أن تراجع مخصصات التعليم أدى إلى تخفيض الأماكن المجانية المتاحة أمام خريجي المدارس الثانوية الحكومية في الجامعات، لافتة إلى ارتفاع نسبة طلاب المدارس الحكومية 25.5% خلال السنوات العشر الماضية، بينما يمثلون 81% فقط من خريجي الجامعات، حيث توجه المقاعد المخصصة لهم إلى الطلاب القادرين على دفع تكلفة الدراسة بمصروفات عالية داخل الكليات الحكومية.

تظهر الدراسة حرص الجامعات الحكومية على التوسع في إنشاء برامج دراسية بمصروفات مرتفعة العائد، بعضها يدفع بالدولار، وتدريس مناهج متقدمة غير موجودة بالأقسام المجانية، لتوفير موارد ذاتية للإنفاق على أنشطتها، مؤكدة أن هذه السياسات تراجع الحكومة عن مسؤولياتها في توفير فرص التعليم المجاني للجميع.
ولقد انتشرت ظاهرة "السبلايز" وهي إمدادات من الأدوات المدرسية الخاصة بالأنشطة والنظافة، تفرضها مدارس حكومية وخاصة على أولياء الأمور. تشترط المدارس تسليم تلك الإمدادات قبل بداية العام الدراسي بأسبوعين. انضمت كثير من المدارس الحكومة العامة إلى تلك الظاهرة، حيث تفرض على كل طالب التبرع بأدوات مدرسية، تبدأ من شراء مقاعد وأجهزة كمبيوتر وطباشير وأقلام للكتابة على السبورة، وتصل إلى شراء "كروت" اتصالات لشحن باقات الإنترنت.

إرهاق الأسر بكثرة الطلبات

تبدي المواطنة سماح رشوان (أم لتلميذين بمرحلة رياض الأطفال والصف الثاني الابتدائي بمدرسة لغات خاصة) انزعاجها من كثرة الطلبات التي فرضت عليها من قبل إدارة المدرسة، والتي جاءتها عبر رسالة على "واتساب" تحدد الأدوات المطلوب شراؤها.
أطلعت رشوان "العربي الجديد" على القائمة، المطلوبة لكل مادة، محددة لون الأدوات المطلوبة الخاصة بكل فصل. طلبت المدرسة لمادة الحساب، للصف الثاني الابتدائي، ملفاً بمقاس كبير ومسطرتين غير حادتين، وثلاثة ملفات قابلة للإغلاق، وآلة هندسية على شكل حرف U وسبورة بيضاء صغيرة، ودباسة وأقلام تظليل بعدة ألوان، وملفاً بعرض يتكون من 60 صفحة، ولمادة اللغة الإنكليزية ثلاثة ملفات كبيرة ومتوسطة الحجم قابلة للإغلاق، و100 ملف على شكل حرف U وكراستين بحجم 80 ورقة، ذات خطين، وكراسة كبيرة بمساحة A5 وكراسة قص ولصق.
تؤكد رشوان التزامها وكافة أولياء الأمور بتسليم هذه الطلبات، لاستخدامها داخل المدرسة، بخلاف ما تتحصل عليه من رسوم تتضمن تمويل الأنشطة المدرسية، مع باقي الإمدادات التي توفرها الأسرة للتلاميذ، التي ينتقلون بها إلى منازلهم، وتشمل الحقائب المدرسية وعلب الطعام والكراسات وأدوات التجليد، والملابس المدرسية. تشير المواطنة إلى تحملها نحو 1600 جنيه لتوفير"السابلايز" المطلوبة من تلميذ واحد، مع زيادتها إلى 2000 جنيه للصغير في سن الروضة، حيث تطلب شراء أدوات لحفظ الطعام ونظافة ومناديل ومعطرات لزوم الحمامات المدرسية.

تشير إلى أن المدارس تعتبر التزام الأهالي بشراء تلك الأدوات، أحد المؤشرات لبقاء الأولاد بالمدرسة وربطها بالموافقة على إلحاق أخوتهم بهم، بما يدفع الناس إلى الخضوع لتلك التعليمات التي انتشرت كالفيروس من المدارس الحكومية إلى الخاصة والدولية لتزيد الضغوط على الأسر، لا سيما مع ارتفاع تكلفتها سنوياً بما يزيد عن 30%، وزيادة رسوم المدارس بنسب تتراوح ما بين 15% و40%، واشتراط بعض المدارس شراء ماركات معينة من الأدوات باهظة الثمن.
تبين رشوان أنها لجأت إلى شراء الإمدادات من أسواق الجملة، وشركات التسويق عبر الإنترنت بما قلل من التكلفة، بينما تتضاعف في المكتبات والشركات الموزعة للماركات العالمية، التي تبرر الزيادة بارتفاع تكلفة الاستيراد، وزيادة سعر الدولار.

تحويل التعليم إلى سلعة

يتهم مراقبون الحكومة بتحويل التعليم إلى سلعة تهدر طاقات الأسر التي خارت قواها في مواجهة ارتفاع الأسعار مع تدهور قيمة الدخل، وانهيار الطبقة الوسطى التي لطالما اتخذت من التعليم وسيلة للرقي الاجتماعي والحفاظ على القيم الإنسانية. يحذر خبراء الاقتصاد والتعليم المشاركون في دراسة حديثة للجامعة الأميركية، من تراجع الحكومة عن توفير التعليم باعتباره منفعة عامة، وتعميق عدم المساواة الاجتماعية على أساس من يستطيع تحمل التكاليف الدراسية، مشيرين إلى أن هذا النظام يحرم غير القادرين من دراسة التخصصات المطلوبة في سوق العمل، التي توفرها الجامعات الخاصة بمصروفات باهظة.