بين مجهولين وتسريبين، تكشف الحكومة المصرية نواياها عن مشروع تخصيص شبه جزيرة رأس الحكمة الاستراتيجية، لأحد المشروعات السياحية الكبرى، لشركة إماراتية.
يروج لخطة البيع بأنها ستكون مقابل ضح 42 مليار دولار، يدفع المستثمر الإماراتي نحو 50٪ منها فورا لتساهم في إخراج الاقتصاد من أزمة خانقة تهدد الدولة بعدم قدرتها على الوفاء باحتياجات المواطنين من السلع الأساسية وسداد فوائد وأقساط الديون التي تضاعفت 3 مرات خلال 10 سنوات.
تظهر التسريبات الإعلامية حول الصفقة المريبة، على لسان أحد المذيعين المشهورين مؤكدا لرجل أعمال بارز، أن القيادة بالدولة أخبرته بسر خطير يطلعه عليه، كصديق ورجل أعمال له مصالح ومجال واسع للتأثير بين المستثمرين وأسواق المال.
يخطر المذيع توفيق بأنه رأى مخططا رسميا لتخصيص أرض رأس الحكمة التي تصل مساحتها نحو 199 كيلو مترا مربعا، إلى شركة إماراتية، لبناء مشروع سياحي كبير، مقابل دفع 22 مليار دولار كدفعة عاجلة، تساعد الحكومة في مواجهة شح الدولار والعملات الصعبة، وسداد باقي المبلغ على 5 سنوات، وضخ استثمارات بمليارات الدولارات، لإقامة منتجعات سياحية ومشروعات عقارية وميناء لليخوت، تباع للأجانب بالعملة الصعبة.
تفاصيل التسريب
يزف المذيع في التسريب الذي انطلق على وسائل التواصل الاجتماعي على جزئين أحدهما بصوته والآخر لرجل الأعمال، مع مطالبته بكتمان الخبر، باعتباره سرا شخصيا.
يعتبر رجل الأعمال الخبر بشرى جيدة يجب على الحكومة أن تحتفي به، داعيا بأن توظف قيمة الصفقة في مشروعات إنتاجية تدر عائدا على البلد بالدولار، بدلا من هدرها. لم يرفض توفيق فكرة البيع ولم يعلق على طبيعة المشروعات، حيث جاءت متوافقة مع رؤيته الخاصة.
انطلقت معلومات بيع "رأس الحكمة" للإمارات كالنار في الهشيم، وتحولت إلى "ترند"، على وسائل التواصل الاجتماعي، يدلي فيها الخبراء والناس بدلوهم، بين مؤيد ومعارض، فتخرج في وسائل الإعلام شبه الرسمية وبعضها مملوك لشركات تديرها المخابرات، مؤكدة وجود خطط حكومية لطرح "رأس الحكمة" كمشروع سياحي ضخم أمام المستثمرين.
مصدر مجهول
يظهر في الأفق مصدر مجهول، ليعلن بالصحف الرسمية للدولة عدم صحة معلومات البيع أو الإسناد لأي مستثمر أجنبي، مع إشارة بجدية المخططات التي تدرسها الدولة لتحويل المثلث المحاط بشواطئ هادئة نادرة إلى مشروع سياحي ضخم في إطار خطة للدولة ممتدة حتى عام 2050.
تقع رأس الحكمة داخل البحر المتوسط على هضبة كاشفة لما حولها من شواطئ غناء، عند الكيلو 170 بين الإسكندرية ومرسي مطروح ممتدة على مسافة 50 كيلو مترا بطريق الساحل الشمالي، ضمن المساحات الصغيرة التي مازالت في حيازة الدولة، على ساحل ممتد لنحو 550 كيلو مترا.
وهي على بعد أميال من منطقة المفاعل النووي بالضبعة، وبداخلها مطار عسكري واستراحة رئاسية استخدمها الرئيس الراحل حسني مبارك كاستراحة صيفية لثلاثة عقود، من بعد الرئيسين الراحلين جمال عبد الناصر ومحمد أنور السادات.
بعد نفي المصدر الرسمي مجهول الهوية، تتناول القنوات الحكومية والخاصة المدارة من الأجهزة الأمنية الصفقة على أنها حقيقة تستهدف سرعة تدبير العملة الصعبة للبلاد.
يروج أحد الإعلاميين المتعصبين للسلطة على أنها صفقة استثمارات واسعة، مدافعا عن فكرة بيع الأراضي مهما كانت أهميتها للأجانب، ومعتبرا أن الصفقة مربحة للمصريين، لأن المستثمر الأجنبي لن يهرب بها للخارج.
تطرح جريدة "الأهرام" المتحدثة باسم الدولة المشروع على صدر صفحاتها بداية الأسبوع الجاري، بقلم رئيس مجلس إدارتها، على أنه صفقة استثمارية ضخمة يجري تجهيزها لتوقعيها خلال أيام، مؤكدا أنها تستهدف مساعدة الدولة في تنفيذ إجراءات جدية، لمواجهة أزمة الدولار وشح العملة الصعبة، بالمواكبة مع حملتها ضد المضاربين في الدولار والذهب.
لا مصادر رسمية
تظل الصفقة مجهولة النسب لمصادر رسمية، بما يستدعي إعلاميين على قنوات خليجية، بطلب أن تحدد الحكومة موقفها صراحة من المعلومات حول الصفقة، بينما توظف الحكومة الأمر في إطار حملات نفسية تقودها أجهزة أمنية لملاحقة المتعاملين بالدولار وشراء سبائك الذهب والسلع الأساسية كملاذ آمن، يواجه التراجع الهائل بقيمة الجنيه.
تسفر الحملات الأمنية على مدار اليومين الماضيين عن توقف بيع الذهب، بينما تختفي صفقات الشراء بين كبار التجار، فيفقد الدولار والذهب نحو 25٪ من القيمة السعرية لهما.
تركت الحرب النفسية آثارها على الجمهور الذي أصبح بعضه متعلقا بأن يرى صفقة بيع "رأس الحكمة" واقعا سريع المفعول، أملا في توقف موجات الغلاء الفاحشة التي ضاعفت أسعار السلع وأدت إلى اختفاء سلع أساسية، وأخرى معمرة من الأسواق، منذ بداية العام الجاري.
يرفض آخرون الصفقة ويعتبرون بيع الأرض للأجانب خيانة للوطن والأجيال القادمة. دعا القيادي السابق بحزب الوفد – ليبرالي- وعضو غرفة شركات السياحة، عادل ضغيم، إلى أن تنشط الدولة الاستثمار السياحي بالمنطقة، وتطرح الأرض بحق الانتفاع للمصريين والأجانب لمدد محددة.
واكد أن سياسة طرح الأراضي والمشروعات العامة للبيع مع تملك الأراضي للأجانب أمر مهدد للسيادة الوطنية، يتجاهل حق الأجيال الجديدة، في التمتع بثروات وطنه.
التدخل الأمني وبيع الأصول
يشير المحلل الاقتصادي بحزب التحالف الاشتراكي – يسار-، إلهامي الميرغني، إلى أن الحكومة اعتادت مجابهة موجات الغلاء المتصاعدة والمستمرة، عبر التدخل الأمني لضبط الأسواق، وبيع الأصول العامة، في نهج لم يرفع العبء عن المواطنين ويحملهم ما فوق طاقتهم.
يستدعي الميرغني مقاربة تاريخية للمشهد الذي يحياه المصريون حاليا، يذكرهم بفترة "الشدة المستنصرية" التي أنهت حكم الفاطميين في مصر بالقرون الوسطى، إثر مجاعة، بعد تفشي موجات غلاء لم تمكن الناس من شراء الدقيق والغذاء بما يكافئه بموازين الذهب.
يحذر الميرغني في حديثه لــ"العربي الجديد" من فترة "شدة سيساوية" أشد ضراوة إذا لم تتغير سبل معالجة الأزمة الاقتصادية على وجه السرعة.
في مناقشة مع وزير سابق من المكلفين دستوريا بحماية الشواطئ والأراضي ومنح الموافقات القانونية للمشروعات السياحية والعمرانية، كشف عن وجود خطط مسبقة للدولة لتنمية الساحل الشمالي، وقصر تخصيص الأراضي بحق الانتفاع للمستثمرين.
وأشار أن ذلك يستهدف إقامة فنادق وشقق فندقية قادرة على جذب حركة السائحين طوال العام، بعد أن تسبب التخصيص المباشر للشركات والأفراد في إقامة منشآت لا تخدم إلا أصحابها وتزيد المضاربات العقارية، دون أن تنتفع منها صناعة السياحة أو خزينة الدولة.
مخطط سياحي
أوضح الوزير السابق، الذي رفض ذكر اسمه، وجود مخطط مسبق تقدمت به عدة شركات مصرية، قررت العمل تحت مظلة واحدة، لبناء مطار مدني وعدة فنادق ومنتجعات ومتنزه للألعاب المائية وميناء لليخوت.
وأضاف أن ذلك على نهج مشروع "سهل حشيش" الذي أقامته الدولة تسعينيات القرن الماضي، جنوب مدينة الغردقة بالبحر الأحمر، والذي شارك في تمويله البنك الدولي والقطاع الخاص وأدارته شركات تابعة للأجهزة الأمنية، وهيئة التنمية السياحة بوزارة السياحة، وكبار المستثمرين بالغرف السياحية.
أكد الوزير لـ "العربي الجديد" أن امتلاك الحكومة لمشروع آخر، بمدينة العلمين وامتداداتها، على مسافة 45 كيلو مترا بالساحل الشمالي يتعرض للتوقف حاليا بعد قرار الحكومة، بحظر تمويل الاستثمارات التي تقوم بها الجهات الحكومية والشركات القابضة التابعة لها، متأثرة بشدة الأزمة المالية، وارتفاع معدلات التضخم والأسعار، والمخاوف من عدم قدرتها على تهدئة الأسواق بما يسبب اضطرابا اجتماعيا.
أوضح الوزير أن الحكومة أجرت مفاوضات مع شركة "الراجحي" السعودية للدخول في تنفيذ مشروعات بمنطقة العلمين لمنافسة شركة إعمار الإماراتية التي تتباطأ حاليا في ضخ استثمارات جديدة بمدينة العلمين، بينما اعتمدت على طرح أغلب مشروعاتها للبيع أمام المصريين، دون أن تساهم في تنفيذ رغبة الحكومة بتحويل المشروعات السياحية والعقارية إلى مصدر مهم في توليد العملة الصعبة.
يؤكد الوزير صعوبة ضخ الشركات الأجنبية أموالا لتنفيذ المخطط الضخم المستهدف للحكومة حاليا، برأس الحكمة، في ظل اضطراب الوضع الأمني في الشرق الأوسط جراء العدوان الإسرائيلي على غزة.
ينوه الوزير إلى أن عدم إعلان الحكومة عن معلومات كاملة عن "مشروع رأس الحكمة" يجعل الأمر في نطاق تسويق الفكرة، وطمأنة المواطنين بأن هناك مشروعات اقتصادية ستدر العملة الصعبة وفرص العمل للشباب، لبث الأمل في المستقبل.
خطورة الشائعات
يشير خبراء إلى خطورة إدارة الحكومة للأسواق عبر شائعات أو معلومات غير مؤكدة ومصادر مجهولة، للسيطرة على سعر الدولار في الأسواق الموازية تمهيدا لتنفيذ صفقة جديدة مع صندوق النقد الدولي، للحصول على قرض تفوق قيمته 8 مليارات دولار، مقابل الالتزام بتطبيق سعر صرف مرن، والإسراع بطرح الأصول العامة للبيع للأجانب وبورصة الأوراق المالية.
يوضح رئيس الحزب الاشتراكي أحمد بهاء الدين شعبان، أن الحكومة تختزل حل الأزمة الاقتصادية العامة في بيع الأصول العامة واتباع سياسات نقدية متشددة.
وأكد أن الأمر يحتاج إلى إعادة هيكلة اقتصادية شاملة، ليتحول إلى اقتصاد تنموي يستهدف إقامة مشروعات منتجة قادرة على توليد فرص عمل وأرباح ومنتجات تصديرية تساعد على سد العجز بين الصادرات الواردات وسداد التزامات الدولة لأقساط وفوائد الديون الأجنبية والمحلية.
تسير الحكومة على النقيض مما يطرحه الخبراء في المؤتمرات الاقتصادية التي تنظمها الرئاسة، مدعومة من أغلبية برلمانية هشة.
يشير خبراء إلى خطورة إدارة الحكومة للأسواق عبر شائعات أو معلومات غير مؤكدة ومصادر مجهولة، للسيطرة على سعر الدولار في الأسواق الموازية
يقود رئيس لجنة الخطة والموازنة فخري الفقي، تيار دعم الحكومة لمشروعات بيع الأصول العامة، معلنا في تصريحات صحافية ضرورة الإسراع في برنامج الطروحات العامة، ومؤيدا لبيع "رأس الحكمة".
وقال الفقي إن الحكومة تحتاج إلى 90 مليار دولار لمساعدتها في تنفيذ خطتها مع صندوق النقد لخفض جديد بقيمة الجنيه، وشراء احتياجات المواطنين من الخارج خلال العام الجاري.
يبحث نواب الأغلبية عن زيادة التمويل الخارجي لتمويل السيولة المطلوبة أمام الحكومة لتهدئة الأسعار المتصاعدة بشكل يومي بكافة السلع، خشية حدوث اضطرابات أمنية، وكحل سريع لمواجهة طلبات المستثمرين المصريين والأجانب من العملة الصعبة، والتي تدفع بعضهم إلى الخروج باستثماراتهم والانتقال إلى دبي والرياض والأردن.
يؤكد محللون أن التزام مجلس الوزراء بالصمت حول ما يدور حول صفقة "رأس الحكمة" يعكس غياب الثقة بين الحكومة والرأي العام والخبراء، حول سبل مواجهة أزمة مالية يعاني منها كافة الأطراف بالدولة.
يطلب المستثمرون من الحكومة سرعة توحيد سعر الصرف، التي تعددت في الآونة الأخيرة بين سوق رسمية عند أقل من 31 جنيها للدولار، وأخرى بالسوق السوداء فاقت 73 جنيها، نهاية يناير/ كانون الثاني 2024، و75 جنيها لدى تجار الذهب و80 جنيها بين تجار السلع المعمرة والغذائية الرئيسية والعقود الآجلة لمدة شهرين، قبل أن يتراجع إلى أقل من 60 جنيها خلال الأيام الأخيرة.
أدى اختلاف الأسعار إلى صعوبة تحويل المشروعات السكنية والفندقية التي طرحتها الحكومة والشركات الخاصة خلال العام الماضي، إلى مصدر لتوليد الدولار من الأجانب والمصريين، في الوقت الذي تعاني فيه الدولة من تراجع تحويلات المصريين بالخارج وقناة السويس وحركة الطيران السياحي، متأثرة بالحرب الإسرائيلية على غزة، وأجواء الحرب جنوب البحر الأحمر.