مهد الرئيس الأميركي جو بايدن الطريق لحسم أغلب الملفات السياسية والاقتصادية الهامة من أجل التفرغ للملف الصيني، بكل مشتقاته المرتبطة بعجز الميزان التجاري الأميركي، وتعطل سلاسل الإمداد، ومشتريات الصين من منتجات الطاقة الأميركية، وهو الملف الذي يرى خصومه من الحزب الجمهوري أن أداء الرئيس المهادن فيه هو الأسوأ، مقارنة بالرئيس السابق دونالد ترامب، الذي يحاول التسلل إلى الأضواء من جديد بقوله قبل أيام، إن سياسة بايدن "ستبني الصين، بينما الحزب الجمهوري (ينتمي إليه ترامب) يريد بناء الولايات المتحدة".
وبعد تعليقاتها مطلع الأسبوع الماضي، التي أعلنت فيها السياسة العامة للتعامل مع الصين تجارياً، وأشارت فيها إلى عدم وفائها بتعهداتها بشراء ما تصل قيمته إلى 200 مليار دولار من المنتجات الأميركية الإضافية، ضمن اتفاق المرحلة الأولى بين البلدين والذي بدأ تطبيقه مطلع العام الماضي، طالبت كاثرين تاي، الممثل التجاري للولايات المتحدة، يوم السبت الماضي، الصين بمفاوضات "صريحة"، تلتزم فيها بكين بتعهداتها التي كانت أساس الاتفاق مع الإدارة الأميركية السابقة.
ومع اقتراب المهلة الممنوحة للصين، حيث يتبقى أمامها أقل من ثمانين يوماً، لا تظهر إشارات توضح أن بكين ستصل إلى تعهدها قبل نهاية العام الحالي.
وقالت إيميلي كيلكريز، كبيرة الباحثين ومديرة برنامج الطاقة والاقتصاد والأمن في مركز "الأمن الأميركي الجديد" إن حديث تاي "يؤكد أنها تحتفظ بكل الخيارات قبل بدء مفاوضات جديدة مع الصين".
وأشارت كيلكريز إلى أن "المفاوضات المباشرة مكون رئيسي لإعادة ضبط العلاقات مع الصين"، مضيفة أن "الأمور الهامة تكون دائماَ صعبة". لكنها انتقدت، في سلسلة تغريدات على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، تمسك بايدن بسياسة التعرفات التي فرضها ترامب، متسائلةً: "هل السياسة التجارية الجديدة هي نفسها السياسة القديمة؟".
واستأنف البلدان لقاءاتهما عبر الإنترنت، قبل ثلاثة أيام، حيث التقت تاي، التي تنحدر من أصول صينية، وتتحدث اللغة الصينية بطلاقة، نائب رئيس الوزراء الصيني والمفاوض الأول لها ليو هي، لتؤكد وكالة شينخوا الصينية الرسمية، بعدها أن الطرف الصيني طالب بإلغاء التعرفات الجمركية والعقوبات الاقتصادية، وقدم الكثير من التوضيحات بخصوص "خططهم الجديدة لنموذج التنمية الاقتصادية لديهم والسياسات الصناعية المرتبطة به".
واعتبرت الإدارة الأميركية أن المباحثات الأخيرة كانت بمثابة اختبار لمدى جدية الصين في التعامل مع التحفظات الأميركية فيما يخص سياساتها التجارية وتقديم الدعم للشركات الصينية، كما التعاون بين الاقتصادين الأكبر في العالم.
وتعد تلك المقابلة الثانية بين المفاوضَين منذ وصول بايدن إلى البيت الأبيض مطلع العام، حيث سبق أن جرى حوار هاتفي طويل بينهما في مايو/ أيار الماضي.
ويأتي استئناف حوارات السياسة التجارية بين البلدين في الوقت الذي يستعدان فيه لاجتماع قمة افتراضي طال انتظاره بين بايدن والرئيس الصيني شي جين بينغ.
ويوم الأربعاء الماضي، التقى مستشار الأمن القومي جيك سوليفان مع دبلوماسي صيني كبير في زيورخ للتحضير للاجتماع الذي يُتوقع عقده خلال الأسابيع المقبلة.
ونقلت محطة "سي إن إن" الإخبارية عن مسؤول كبير في الإدارة الأميركية قوله إنهم "مستعدون لاستخدام كافة الأدوات المتاحة لحماية العمال والمزارعين والشركات الأميركية من الممارسات التجارية غير العادلة".
واعتبر مركز الأبحاث والسياسات غير الهادف للربح "منتدى العمل الأميركي"، أن سياسات بايدن التجارية في التعامل مع الصين، والتي أعلنت عنها الممثلة التجارية، "لم تضف جديداً للشركات الأميركية التي تضررت كثيراً بسبب الحرب التجارية الأميركية الصينية".
وقال المركز في تقرير اطلعت عليه "العربي الجديد" إن "الخطة المبنية على أربع خطوات لتحقيق أهداف حماية الاقتصاد والعمالة الأميركية لم توضح تفاصيل ما ستقوم به الإدارة من أجل تنفيذ تلك الخطوات"، مؤكداً أن التفاصيل القليلة التي تم الإعلان عنها تشير إلى أن إدارة بايدن ستستمر في تطبيق السياسات الحمائية التي اتبعها ترامب تجاه الصين.
وعلى الرغم من جهود الولايات المتحدة المعلنة لرأب الصدع في العلاقات مع الحلفاء الأوروبيين، من أجل مواجهة التهديد الصيني السياسي والاقتصادي والتجاري، لا تبدو الولايات المتحدة مستعدة حالياً للاستغناء عن الاستيراد من الصين، أو زيادة التوتر في العلاقات التجارية بينهما.
وبينما يتمسك بايدن بورقة التعرفات الجمركية، التي يأمل الصينيون في إلغائها أو تخفيضها على أقل تقدير، باعتبارها "الجزرة التي يمكن تقديمها في مرحلة متقدمة من المفاوضات"، يلوح المفاوض الأميركي في المباحثات بعصاه الموجهة لدعم بكين للشركات الصينية، وممارساتها التجارية غير المحبذة في واشنطن، والتي تراها خارجة عن إطار التنافس المشروع. ونصت المرحلة الأولى من الاتفاق بين البلدين أيضاً على حماية حقوق الملكية الفكرية وبراءات الاختراع التي تمتلكها الشركات الأميركية.
وانتقد ديفيد فرنش، نائب رئيس "اتحاد التجزئة الوطني"، سياسة بايدن في التعامل مع الصين، مؤكداً، في حوار مع وكالة رويترز أخيراً، أن "السياسة التي طال انتظارها وتم الإعلان عن خطوطها العريضة مؤخراً هي سياسة باهتة، وستزيد من الأضرار غير الضرورية للاقتصاد الأميركي ولسلاسل الإمداد الخاصة بمحلات التجزئة".
ومثلما احتار العالم، بما فيه وكالة المخابرات المركزية الأميركية، في حقيقة فيروس كوفيد-19، وما إذا كان مُصَنعاً وموجهاً بواسطة الصينيين، أم أنه كان قضاء وقدراً تسبب في إصابة ما يقرب من ربع مليار شخص حول العالم، ووفاة ما يقرب من خمسة ملايين منهم، ما زالت مشكلة تعطل سلاسل الإمداد تؤرق الأميركيين، الذين بدأوا يلاحظون اختفاء بعض السلع من على رفوف المحال، وارتفاع سعر البعض الآخر، فيما يبدو أنه سيكون موجة تضخمية جديدة لم تعرفها البلاد منذ أوائل التسعينات، الأمر الذي أكد أن اعتماد الولايات المتحدة على علاقتها التجارية مع الصين ليس مما يمكن الاستغناء عنه حالياً.
وبعد عام الجائحة، الذي شهد مشكلات مادية وصحية للملايين من الأسر الأميركية، ارتفع الإنفاق الاستهلاكي الأميركي بصورة كبيرة بفعل تريليونات الدولارات التي ضختها الحكومة الأميركية لمساعدة الأسر، حتى أن المعروض من السلع لم يعد يستوعب حجم الطلبات، فبدأ التضخم الأميركي في الارتفاع.
وبعد عقود كانت فيها الصين هي "المَصْنَع" بالنسبة لأغلب دول العالم، بما فيها الولايات المتحدة الشريك التجاري الأكبر في العالم للصين رغم المنافسة والعداوة، ألقى الأميركيون باللوم على الصينيين في تعطل الإنتاج في بلادهم وغياب الكثير من السلع، بعد أن تعطلت السفن القادمة من الصين، وقلت صادراتها للولايات المتحدة من المواد الخام، والسلع الوسيطة، كما السلع النهائية من الإلكترونيات وغيرها.
وفي الوقت الذي ما زال البعض يشكك في نوايا الصينيين، وتزامناً مع اقتراب موسم عطلات الشتاء والأعياد في أميركا واستمرار تعطل سلاسل الإمداد وانتشار متحور دلتا من فيروس كورونا ونقص العمالة المدربة، لجأت بعض سلاسل محلات التجزئة الكبرى إلى تسيير سفن نقل بضائع خاصة بهم، لضمان توفير السلع المطلوبة في فترة الأعياد.
ورغم ارتفاع التكلفة على تلك الشركات باختيار هذا البديل، الذي أصبح يستغرق من الوقت ضعف ما كان يحتاجه قبل ظهور الفيروس، إلا أن الجميع، بمن فيهم رئيس بنك الاحتياط الفيدرالي الأميركي جيرومي باول، اعترف بارتفاع معدل التضخم، حيث سُمح لأصحاب الشركات بتمرير ارتفاع التكلفة إلى المستهلكين من خلال زيادة الأسعار، وهو ما قد تنتج عنه زيادة واردات الولايات المتحدة من كندا والمكسيك وبعض الحلفاء الأوروبيين، على حساب البضائع الصينية.