استمع إلى الملخص
- تاريخياً، مرت سوريا بمراحل اقتصادية متعددة، بدءاً من اقتصاد السوق الحر، مروراً بالاشتراكية والتخطيط المركزي، مما أدى إلى اقتصاد يفتقر إلى التنوع والمرونة وزيادة الاعتماد على الدولة.
- يقترح النموذج الجديد تبني اقتصاد مختلط يجمع بين السوق الحر والعدالة الاجتماعية، مع إعادة هيكلة القطاعات الإنتاجية وتحقيق العدالة الاجتماعية عبر إصلاح الضرائب ودعم المشاريع الصغيرة.
مع سقوط النظام السوري، بات من الممكن الآن التفكير بإنتاج نموذج اقتصادي جديد يواكب التطورات الحديثة. أتذكر جيداً كيف مرّت الأزمة المالية العالمية عام 2007 دون أن تترك أثراً يُذكر على الاقتصاد السوري. رأى البعض في ذلك إنجازاً يُحسب للنظام، مع الإشارة المتكررة دوماً إلى أن سورية غير مدينة لأي جهة، وشكر الله على ذلك. في الوقت الذي شهد فيه العالم تطورات هائلة خلال العقد الأول من الألفية الجديدة، في كل شيء تقريباً، بينما منّ بشار الأسد على السوريين بالسماح بإنشاء البنوك وشركات التأمين والجامعات الخاصة في العام 2004، ثم افتتاح سوق دمشق للأوراق المالية في العام 2009، لم يتأخر سوى 50 عاماً فقط عن الركب!
يتذكر الكثيرون كيف كانت الأوضاع الاقتصادية في سورية أفضل عقب استقلالها عن الانتداب الفرنسي، مقارنة بما آلت إليه خلال حكم عائلة الأسد الممتد لخمسة عقود. آخرون يشيرون إلى مرحلة الاشتراكية مع مصر التي شهدت تحولات لصالح الفلاحين والعمّال على حساب الإقطاعية والبرجوازية. اليوم، وبعد 14 عاماً من الحرب الدامية التي خاضها بشار الأسد ضد إرادة الشعب السوري بالتغيير والحرية، والتي أدت إلى تدمير البنية التحتية وشلل القاعدة الإنتاجية وتغيير ملامح سورية الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية، بدأ التفكير في نموذج اقتصادي جديد في ظل ازمات معيشية خانقة وأوضاع اقتصادية غاية في الصعوبة.
النماذج الاقتصادية: التحولات وإرث الأزمات في سورية
قبل الخوض في النموذج الاقتصادي المقترح، لا بد من استعراض النماذج الاقتصادية التي مرت بها سورية منذ استقلالها عن الانتداب الفرنسي في عام 1946. فقد شهدت البلاد بعد استقلالها (1946-1958) حقبة من اقتصاد السوق الحر، حيث تمكنت من تحقيق نمو تدريجي في قطاعات مثل الزراعة والتجارة، واستقطاب رؤوس أموال محلية وأجنبية للاستثمار في مشاريع تنموية. وعلى الرغم من النجاحات الاقتصادية في تلك الفترة، إلا أنها ورثت صراعاً طبقياً حاداً بين الفلاحين وملّاك الأراضي، وبين البرجوازية والعمّال. أدى هذا الصراع إلى تعميق الفجوة الاجتماعية وزيادة السخط العام. كما افتقرت إدارة الموارد إلى الإنتاجية والفعالية وشمولية النمو، فضلًا عن عدم الاستقرار السياسي نتيجة الانقلابات العسكرية المتكررة.
وفي مرحلة الوحدة مع مصر (1958-1961)، تبنت سورية النظام الاشتراكي، حيث هيمنت الدولة على وسائل الإنتاج وتوزيع الثروة، ما أتاح للفلاحين الانتصار على الإقطاعيين عبر قوانين الإصلاح الزراعي، وللعمال على الصناعيين من خلال تأميم المصانع والمعامل والمؤسسات الكبرى. ورغم تحقيق مكاسب اجتماعية مثل تحسين التعليم والرعاية الصحية، إلا أن هذه السياسات أدت إلى تفكيك الطبقة التجارية والصناعية التقليدية، وهو ما انعكس سلباً على الإنتاجية، وزاد الاعتماد على الدولة بما هي مصدر رئيسي للوظائف والخدمات، في ظل غياب الخبرة الإدارية لدى الملاك الجدد لوسائل الإنتاج.
بعد انفصال الوحدة، عاشت سورية حالة من التردد بين الاشتراكية واقتصاد السوق الحر، حتى جاء حزب البعث إلى السلطة في عام 1963، تلاه انقلاب حافظ الأسد الذي رسّخ التخطيط المركزي والاشتراكية في الدولة. استفاد الاقتصاد من إيرادات النفط التي دخلت الموازنة عام 1968، ولكن السياسات الجديدة همّشت القطاع الخاص وخلقت اقتصاداً يفتقر إلى التنوع والمرونة. أدى التوسع في نظام الدعم الحكومي والبيروقراطية إلى ضعف الكفاءة الاقتصادية وزيادة الأعباء المالية، بينما أسهم غياب الحوكمة والشفافية في انتشار الفساد والمحسوبية تحت نفوذ حزب البعث والسلطة الأمنية وعائلة الأسد.
مع مطلع الألفية الجديدة، حاول بشار الأسد تبني نموذج اقتصادي مستوحى من التجربة الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية، والمعروف بـ"السوق الاجتماعي"، بهدف تحقيق توازن بين القطاعين العام والخاص. إلا أن هذه السياسات فشلت في تحقيق أهدافها، بل أدت إلى نتائج عكسية. استمرت معدلات البطالة والفقر في الارتفاع، وتفاقمت التحديات الاقتصادية نتيجة الانفتاح غير المدروس على الأسواق العالمية، خاصة مع إغراق السوق المحلية بالبضائع التركية دون حماية كافية للمنتج المحلي. إلى جانب ذلك، أسهم رفع الدعم عن المحروقات والأسمدة، وتحرير الأسعار، والجفاف الذي ضرب البلاد بعد عام 2006، في هجرة الفلاحين من أراضيهم وازدياد حزام الفقر حول المدن.
أخيراً، مع اندلاع الثورة عام 2011، دخل الاقتصاد السوري مرحلة جديدة تعرف بـ"اقتصاد الحرب". تميزت هذه المرحلة بتدمير واسع للبنية التحتية، وتعطل القطاعات الإنتاجية التقليدية، وظهور شبكات تهريب، وهيمنة الاقتصاد غير الرسمي على الإنتاج والتوزيع. بالإضافة إلى ذلك، أدى الانهيار الحاد في قيمة العملة المحلية إلى تفاقم الأزمات المعيشية، مما زاد من هشاشة الاقتصاد الوطني.
الموازنة بين العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية
ورثت سورية عن نظام الأسد تركة ثقيلة من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، تحتاج إلى سنوات طويلة وجهود مكثّفة للتعافي منها. لمواجهة التحديات الراهنة، ينبغي اعتماد نموذج اقتصادي متكامل يأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات الاجتماعية والاقتصادية للبلاد، مع الاستفادة من تجارب دول تعافت من أزمات وحروب مشابهة، مثل رواندا، وفيتنام، وألمانيا، وكولومبيا.
ويبقى التساؤل مطروحاً: هل يجب أن نتبنى اقتصاد السوق الحر، أم نسلّم مفاتيح الاقتصاد للدولة لتخطط وتنظم وتوزع الثروة؟ وكيف تمكن مراعاة الخصوصية الاجتماعية التي تعاني منها سورية في أي من الخيارين؟
لا شك أن المهمة معقدة، لكن التضحيات التي قدمها الشعب السوري للوصول إلى هذه اللحظة تستحق تخصيص مساحات واسعة للتفكير والنقاش، وكتابة أوراق ودراسات معمّقة لتحديد النموذج الاقتصادي الأمثل لسورية في المرحلة المقبلة.
يقوم النموذج الاقتصادي المقترح لسورية، من وجهة نظري، على اقتصاد مختلط يجمع بين آليات السوق الحر ومبادئ العدالة الاجتماعية. يتولى القطاع الخاص إدارة وسائل الإنتاج مع ترك حرية تحديد الأسعار للتنافسية السوقية، بينما تقع على عاتق الدولة مسؤولية توزيع الثروة بشكل عادل. يشمل ذلك تخصيص الموارد بطرق تضمن التوازن الاجتماعي والاقتصادي عبر الضرائب، والتشريعات، وتقديم الخدمات الاجتماعية، والسيطرة على الموارد القومية وتقديم حوافز وتسهيلات للصناعيين والفلاحين.
ولتحقيق هذا النموذج، ينبغي اتباع نهج تدريجي يبدأ بإعادة هيكلة شاملة للقطاعات الإنتاجية، بما فيها الصناعات التحويلية والزراعة مع التركيز على التنمية الزراعية في الأرياف وتقديم كافة أنواع الدعم للفلاح، وتعزيز كفاءة استخدام الموارد الطبيعية مثل المياه، والنفط، والغاز، واستصلاح الأراضي الزراعية، وتطوير الصناعات القائمة على القيمة المضافة. كذلك، يتطلب الأمر توقيع اتفاقيات تجارية مع دول الجوار والعالم لتعزيز المنتج الوطني وتحقق مكاسب لجميع الأطراف.
على مستوى السياسات الاجتماعية، ينبغي أن تكون العدالة الاجتماعية محوراً رئيسياً للنموذج المقترح. يشمل ذلك إصلاح نظام الضرائب ليصبح أكثر تصاعدية، وتوجيه الإنفاق العام لتحسين الخدمات الأساسية في مجالات التعليم، والصحة، والإسكان. كما ينبغي العمل على تقليص الفجوات بين المناطق الريفية والحضرية من خلال استهداف المناطق الأكثر تضرراً بمشاريع تنموية وبنية تحتية متطورة. وكذلك، من الضروري توفير بيئة تنظيمية مواتية لدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، عبر تسهيل الوصول إلى التمويل، وتقليل العقبات البيروقراطية، وتشجيع الابتكار وريادة الأعمال. وبالإمكان تحقيق ذلك من خلال تقديم حوافز ضريبية ودعم تقني للمشاريع الناشئة.
أخيراً، يشكل التحول نحو اقتصاد السوق الحر في سورية تحدياً كبيراً، خاصة في ظل الأزمات المركبة التي طاولت جميع جوانب الحياة. يتطلب النجاح في هذا التحول تبني سياسات دقيقة تأخذ في الاعتبار السياقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، مع الاستفادة من دروس التجارب الدولية لضمان تحقيق التعافي الاقتصادي والتنمية المستدامة.