تتوالى أخبار نجاحات وابتكارات منتجات الصناعات الدفاعية التركية بصورة شبه أسبوعية، الأمر الذي يؤكد على وجود إرادة سياسية حقيقية دافعة لهذه الصناعات، علاوة على نجاح الدولة في خلق منظومة بحثية مساندة، لا تتوقف عند حدود البحث والتطوير، وإنما تتخطى ذلك إلى مساندة الشركات الحكومية والخاصة في التطبيق الإنتاجي لهذه البحوث، وفقاً لأحدث معايير الجودة العالمية، وبما يضمن تنافسية عالية لهذه الصناعات في الأسواق الدولية.
وتشير الإحصاءات الرسمية إلى استثمار الدولة التركية ما يزيد عن 60 مليار دولار لتطوير الصناعات الدفاعية، وإلى ارتفاع حجم الميزانية المخصصة للبحث والتطوير في القطاع للعام الحالي إلى 1.5 مليار دولار، كما زاد عدد الشركات العاملة في القطاع من 56 إلى 1500 شركة، خلال فترة حكم حزب العدالة والتنمية، كما تتواجد الآن 7 شركات تركية في لائحة أكبر 100 شركة عالمية للصناعات الدفاعية، مقارنة بشركة واحدة حتى عام 2010، و5 شركات في عام 2019.
طفرة الإنتاج والاكتفاء الذاتي
يعود اهتمام تركيا بالإنتاج الدفاعي إلى حقبة الأزمة القبرصية في السبعينيات من القرن الماضي؛ حينما فرضت الولايات المتّحدة عقوبات على حليفتها في حلف الناتو، تضمّنت حظراً لبيع الأسلحة إليها، بسبب رفض أنقرة الوقوف متفرّجة على المذابح التي ارتكبها الشطر الجنوبي من الجزيرة المدعوم من قبل اليونان والغرب ضد القبارصة الأتراك، وذلك إبان الانقلاب العسكري الذي جرى في الجزيرة.
تشير الإحصاءات الرسمية إلى استثمار الدولة التركية ما يزيد عن 60 مليار دولار لتطوير الصناعات الدفاعية، وإلى ارتفاع حجم الميزانية المخصصة للبحث والتطوير
ورغم ذلك لم تشهد الصناعات الدفاعية طفرات كبرى إلا مع تولي حزب العدالة والتنمية السلطة عام 2002، ومنذ ذلك الحين؛ تبلورت أولويات الدولة التركيّة حول تحقيق الاكتفاء الذاتي من المنتجات الدفاعية، وزيادة صادرات وعائدات صناعة الدفاع، بما يليق بمكانة تركيا كقوة صاعدة على المستوى الدولي.
ومراراً أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان أن تركيا ستصبح منتجا رئيسيا في الصناعات الدفاعية، بحيث لا تستورد أيا من المنتجات الحساسة من الخارج، كما أكد أنه لا يمكن لأي أمة لا تتمتع بالقوة والاستقلالية في الصناعات الدفاعية النظر بثقة إلى مستقبلها، وأن الاستقلال التكنولوجي بات أكثر أهمية من أي وقت مضى، لتحقيق الردع على الصعيد الدولي، من خلال تلبية الاحتياجات الأمنية والدفاعية للبلاد، لا سيما في ظل الأجواء المضطربة التي تعيشها البلدان المجاورة لتركيا.
وتشير التقارير الرسمية إلى نجاح الدولة التركية في تصنيع 70% من قطاع الصناعة العسكرية محليا مقارنة بنحو 20% فقط عند صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في عام 2002، وذلك في إطار خطة متكاملة أعدتها الدولة للتوجه نحو الاكتفاء الذاتي من الصناعات الدفاعية في عام 2023، الذي يوافق مرور مائة عام على تأسيس الجمهورية.
وبخلاف المسيرات التركية الشهيرة، تمتلك تركيا الآن إمكانية إنتاج المركبات والأنظمة العسكرية الأكثر تعقيدًا مثل الحفارات البرمائية المدرعة، والمركبات المضادة للدبابات، ودبابات القتال المتوسطة والرئيسية مع مجموعة واسعة من نظم أبراج الدبابات، كما باتت تركيا من بين عشرة بلدان في العالم فقط تصمم وتصنع سفنها الحربية بنفسها.
كما تنتج تركيا المركبات المضادة للألغام، ومركبات العمليات المدرعة، ونظام "قورقوت" للدفاع الجوي ذاتي الدفع، ورادارات "سرهات" للكشف عن قذائف الهاون، وكذلك، نظام الدعم الإلكتروني للرادار (REDET-II)، إضافة إلى مجموعة واسعة من مجموعات التوجيه وقاذفات القنابل والمسدسات الفردية والبنادق، والمناظير الحرارية والقنابل الحارقة، وأنظمة رادارات للكشف عن الطائرات بدون طيار، والكاميرات الحرارية وزوارق الدوريات السريعة، فضلا عن صواريخ الدفاع الجوي، وصواريخ الاختراق الذكية أرض جو، وغيرها الكثير من السلع الدفاعية المتقدمة.
ومنذ أيام أكد الرئيس التركي تحقيق الاكتفاء الذاتي في صناعة الذخائر قائلاً "لن نعتمد على أحد بعد الآن في تأمين قنابلنا وذخيرتنا وصواريخنا والرؤوس الحربية"، وجاء ذلك في إطار افتتاحه منشأة لتصنيع الذخائر في شركة الصناعات الميكانيكية والكيميائية التركية (MKEK)، والمتخصصة في إنتاج المواد المتفجرة والتركيبات الكيميائية المصنوعة من البارود.
طفرة صادرات الأسلحة التركية
يشير تقرير لمعهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) صدر في العام الماضي إلى أن صادرات الأسلحة التركية ارتفعت بنسبة 170% خلال السنوات العشر الماضية، ويشير تقرير أحدث للمعهد صدر في منتصف مارس الماضي إلى نمو صادرات تركيا من الأسلحة المصنعة محلياً بنسبة 30% خلال السنوات الخمس الماضية المنتهية في 2020، مقارنة مع الفترة المقابلة المنتهية في 2015، وإلى انخفاض واردات تركيا من الأسلحة بنسبة 59%، في السنوات الخمس الماضية (2016 - 2020) مقارنة مع الفترة بين 2011-2015.
وحققت تركيا قفزات ملحوظة في صادرات الصناعات الدفاعية، حيث ارتفعت من 487 مليون دولار عام 2006 إلى نحو 2.2 مليار دولار 2018، ثم إلى 3 مليارات دولار بنهاية عام 2019، وهو الرقم الذي أهل أنقرة لتشغل المرتبة رقم 13 بين العواصم الأكثر تصديراً للأسلحة في العالم.
زاد عدد الشركات العاملة في القطاع من 56 إلى 1500 شركة، خلال فترة حكم حزب العدالة والتنمية، كما تتواجد الآن 7 شركات تركية في لائحة أكبر 100 شركة عالمية للصناعات الدفاعية
ومؤخراً أعلنت بيانات وزارة التجارة ومجلس المصدرين التركي أن صادرات منتجات الدفاع والطيران سجلت في الثلث الأول من العام الحالي، ارتفاعا بنحو 47.7% مقارنة مع الفترة ذاتها من العام الماضي، لتبلغ نحو مليار دولار، ولا تقف الطموحات التركية عند هذا الحد، بل تهدف أنقرة إلى رفع سقف صادراتها الدفاعية والفضائية إلى 25 مليار دولار سنوياً بحلول عام 2023.
وتقوم الدولة التركية بدور كبير في فتح أسواق للمنتجات الدفاعية، لا سيما أن مبيعات الأسلحة ذات خصوصية استراتيجية فيما يتعلق بالدول التي يسمح لها بتملك نوعية معينة من الأسلحة بكامل قدراتها أو بجزء منها، وهو الدور الذي تتقاطع فيه الخطوط الدبلوماسية والسياسية والعسكرية والاقتصادية.
منافع متعددة للصناعات العسكرية التركية
يعود ازدهار الصناعات الدفاعية التركية بالعديد من المنافع على الدولة، ففضلا عن المنافع الاقتصادية المعتادة من تزايد متحصلات النقد الأجنبي من عوائد الصادرات، وتشغيل الأيدي العاملة، وتوطين التكنولوجيا المتقدمة في الصناعات العسكرية، ثم نقل تطبيقاتها إلى الصناعات المدنية، وكل ذلك يزيد من قوة ونفوذ الاقتصاد التركي علي الصعيدين المحلي والدولي.
كما يؤدي هذا الازدهار كذلك إلى دعم القوة الناعمة والخشنة للبلاد، ففضلا عن قوة الردع الاستراتيجي الخشنة، فإن مبيعات الأسلحة تمكن الدولة من بناء التحالفات الاستراتيجية، وتمديد دوائر التفاعل والنفوذ، وتقوية حلفائها عبر إمدادهم بأسلحة تهيمن على صناعتها قوى دولية، وهذا ما رأيناه عند التدخل التركي في كل من ليبيا وأذربيجان، وهما نموذجان من المرجح أن يسهما بفاعلية كبيرة في تزايد الصادرات الدفاعية التركية، علاوة على استفادة العديد من الأنشطة الاقتصادية الأخرى.
لا يمكن الخروج من فخ التبعية السياسية والاقتصادية، ومن براثن قوى الهيمنة العالمية دون امتلاك للمقدرات الاستراتيجية للدولة وفي مقدمتها الغذاء والسلاح والدواء، ولا يكون ذلك إلا عبر بنية بحثية أساسية متينة، تتوافر لها الموارد المالية والبشرية الكافية، تدعمها إرادة سياسية صلبة، وشراكة بين القطاعين العام والخاص، في إطار من التكامل والشفافية، وفي إطار من الخطط الاستراتيجية الطموحة وطويلة المدى، والصبر الجميل أثناء التنفيذ وإلى حين جني الثمار، وذلك هو الدرس التركي الذي يجب أن تدركه الدول العربية، إذا أرادت الانعتاق من فخ التبعية وتملق قرارها السيادي، والنهوض باقتصاداتها المتهاوية.