لا تزال ميزانية الدولة المقترحة من حكومة الوحدة الوطنية رهن مساومات وحسابات سياسية تتعلق بمسار التحول الحاصل في المشهد، ورغبة أطراف متنفذة في ضمان استمرار بقائها، في الوقت الذي لا تزال فيه وعود الحكومة الليبية الرامية إلى إنعاش الاقتصاد تراوح مكانها ولا تتجاوز التصريحات والبيانات.
وفي مطلع إبريل/نيسان الماضي، تقدمت الحكومة بمقترحها الأول لمجلس النواب لاعتماد الميزانية، لكن حجمها البالغ 98 مليار دينار ليبي كان محل انتقاد النواب والمطالبة بتقليصها، ما دفع الحكومة إلى تعديلها لتنخفض قيمتها إلى 93 مليار دينار (الدولار= 4.48 دنانير)، من دون أن تتمكن رئاسة مجلس النواب من طرحها للتصويت عليها، رغم إعلانها عن تضمينها في جدول أعمال جلسات النواب في أكثر من مرة.
عقيلة صالح عندما طالب رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة، بضرورة أن تتضمن الميزانية أموالا لمليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر
وخلال جلسات مجلس النواب، الأسبوع الماضي، أعلن رئيس المجلس، عقيلة صالح، وبشكل مفاجئ، عن إرجاء مناقشة مشروع الميزانية بـ"طلب من الحكومة"، قبل أن يعلن الناطق الرسمي باسم المجلس، عبد الله بليحق، في اليوم التالي، عن وصول مقترح الميزانية الجديدة وتعميمه على النواب، موضحا أن قيمتها بلغت "111 مليار دينار ليبي".
ورغم الانتقادات الواسعة والمعارضة من قبل عدد من النواب على حجم الميزانية الكبير، والذي لا يتماشى مع سبب اعتراضهم على مقترحيها السابقين، إلا أن القفزة في حجمها لا يمكن فصلها عن مطالب عقيلة صالح عندما طالب رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة، بضرورة أن تتضمن الميزانية أموالا لمليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وفقا لرأي أستاذ الاقتصاد في الجامعات الليبية عبد السلام زيدان.
وكان صالح قد طالب، أثناء زيارة له لحفتر في مقره العسكري في الرجمة منتصف الشهر الماضي، بضرورة أن يكون لقيادة مليشيات حفتر "ميزانية مقدرة ومحترمة"، بل وأكد أنه شرط النواب لتمرير مقترح الميزانية.
وعلى الرغم من أن بليحق أكد أن مقترح الميزانية الجديد تم تعميمه على النواب من دون أي تفاصيل أخرى، إلا أن عضو مجلس النواب أبوبكر سعيد، كشف عن تفاصيل في المقترح الجديد، موضحا أن الزيادة فيه جاءت بقيمة 17 مليار دينار.
وبمزيد من التوضيح قال سعيد، في تدوينة على حسابه على فيسبوك، إن "المقترح الجديد يتضمن زيادة في الإنفاق على الباب الأول (المرتبات وما في حكمها) بقيمة نحو 9.245 مليارات دينار"، مضيفا أن هذه الزيادة شملت مرتبات موظفي وزارات الداخلية، العدل، المالية، الصحة، التربية والتعليم، التعليم التقني، الدفاع، والشباب والرياضة، والنفط.
وفيما أشار سعيد إلى زيادات في باب الطوارئ بقيمة ملياري دينار ولقاء أبواب التنمية ودعم المحروقات من دون زيادة، أشار إلى زيادة في باب النفقات التسييرية بقيمة ستة مليارات دينار.
وقال إن هذا الباب "تضمن مخصصات لوزارة الدفاع لتغطية التزامات عن سنوات سابقة بقيمة 5 مليارات دينار ليبي، وأكد أن الزيارة في مخصصات وزارة الدفاع "لم يتم إحالة تفصيل حولها".
مقترحات الحكومة للميزانية تضمنت تخصيص 2.5 مليار دينار ليبي للقوات المسلحة العربية الليبية، في إشارة لحفتر ومليشياته، ومخخصات لقوات الردع الخاصة وجهاز دعم الاستقرار
ويبدو أن تخصيص الحكومة أموالا للمجموعات المسلحة في البلاد تضمنه المقترحان السابقان، فخلال تقرير لمنظمة العفو الدولية، نشر الجمعة الماضية، طالبت فيه الحكومة بضرورة تراجعها عن منح المليشيات المسلحة أموالاً ضمن مقترحها للميزانية، كشفت في ثناياه النقاب عن أن مقترحات الحكومة للميزانية تضمنت تخصيص "2.5 مليار دينار ليبي للقوات المسلحة العربية الليبية"، في إشارة لحفتر ومليشياته.
كما كشف التقرير عن اقتراح الميزانية تخصيص "260 مليون دينار ليبي لجهاز الأمن الداخلي"، موضحة أنه جهاز تألف من ضباط أجهزة مخابرات وأمن النظام السابق المتحالفين مع حفتر ومليشياته.
كما لفت تقرير المنظمة الدولية إلى أن مقترح الميزانية الحكومية خصص أموالا لمجموعات مسلحة أخرى تعمل في غرب البلاد، من بينها "146 مليون دينار لقوات الردع الخاصة، بقيادة عبد الرؤوف كارة، و40 مليون دينار لجهاز دعم الاستقرار بقيادة عبد الغني الككلي المعروف بغنيوة، و35 مليون دينار لجهاز الأمن العام بقيادة عماد الطرابلسي".
ويعبر مصدر متابع لمسار مشروع ميزانية الحكومة، عن أسفه في حديث لـ"العربي الجديد" عن ارتهان الوضع الاقتصادي وآمال إنعاشه لمصالح أفراد يتحكمون في قرار المؤسسة البرلمانية.
وقال المصدر، الذي رفض ذكر اسمه، إن "بعض النواب صرحوا منذ أول جلسة لمناقشة المقترح الأول للميزانية بأن الميزانية لن تمر دون تخصيص مبالغ لقيادة حفتر، ولذا فعقيلة صالح وحلفاؤه كانوا يستخدمون ورقة حجم الميزانية الكبير للضغط على الحكومة من أجل تخصيص مبالغ أكبر للمليشيات".
ويلفت إلى أن رئاسة مجلس النواب طالما قرنت في جداول جلساتها المعلنة بين ملف الميزانية وملف المناصب السيادية، في رسالة تخفي الضغط بملف المناصب على ملف الميزانية.
وأضاف: "عندما بدأ المشهد تسيطر عليه قضية الانتخابات بدأت المساومات من خلال القاعدة الدستورية وقانون الانتخابات، فأغلب جداول أعمال الجلسات كانت تتضمن ملفي الميزانية والانتخابات".
وفيما ينتقد المصدر طريقة تعاطي مجلس النواب مع استحقاق الميزانية دون اكتراث بعرقلته لمهام الإصلاحات الاقتصادية التي تعول الحكومة على الميزانية لإنعاشها، لفت إلى أن مطالبة عقيلة بـ"ميزانية مقدرة ومحترمة"، تشير بوضوح إلى أن هذه الأموال كانت متضمنة في المقترحات الأولى لكنها لم تكن مرضية لحفتر ومليشياته.
الميزانية تقترح تخصيص "260 مليون دينار ليبي لجهاز الأمن الداخلي الذي يتألف من ضباط أجهزة مخابرات وأمن النظام السابق المتحالفين مع حفتر ومليشياته
ولقاء المخاطر الكبيرة التي قد تكتنف تقديم دعم مالي للمجموعات المسلحة في البلاد، خصوصا معسكر حفتر المعروف بمناوئته للحكومة، يرى المصدر أن رئيس الحكومة يخاطر بالمراهنة على نجاح مقارباته ورؤاه الاقتصادية التي يعتمدها في طريقة الوصول إلى حل لأزمة البلاد.
وتركز سياسات الدبيبة على العمل على مبادرات تحفيزية لتعافي اقتصاد البلاد، من خلال إطلاق عدد من الأنشطة والبرامج الاقتصادية، وإصدار عدد من القرارات وربط الأحلاف من خلال المعاهدات مع دول الجوار القريبة والبعيدة، بهدف تغيير المناخ والبيئة الاستثمارية في البلاد.
وأعلن الدبيبة، في عديد المناسبات، عزم حكومته زيادة إنتاج النفط إلى 4 ملايين برميل يوميا، لتصبح بلاده أكبر بلد أفريقي مصدر للنفط، حيث بلغ إنتاجها، حتى نهاية يونيو/حزيران الماضي، نحو 1.163 مليون برميل يوميا.