- يسلط الضوء على الأوضاع المتوترة في غزة، مع استمرار الاعتداءات الإسرائيلية والدعم الأمريكي لإسرائيل، وينتقد طريقة إرسال المساعدات الإنسانية والتحديات في إيصالها وإعادة البناء.
- يتناول التكاليف الباهظة لإعادة بناء غزة والحاجة لمشاركة دولية واسعة في التمويل، مع التركيز على دور الدول الإسلامية والكبرى والتحديات السياسية المرتبطة بالهند، مؤكدًا على الحاجة لقيادة عالمية منصفة.
في مقال بمناسبة حلول شهر رمضان نشره الأمير الحسن بن طلال في صحيفة الأهرام المصرية يوم الأربعاء الماضي بعنوان "رمضان ومشروع النهضة"، شرح فيه خواطر تُهِمّه دائماً عن مشروع النهضة الإسلامي، مركَّزاً على التعاطف والتكافل خاصة في فريضتي الصيام والزكاة، داعياً إلى التمسك بالعمل، مشيراً إلى حديث الرسول عليه الصلاة والسلام "إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل".
وقارن في المقال بين ما ترتكبه إسرائيل من فظائع، مستدركاً أن غزة هي غزة هاشم بن عبد مناف جد الهاشميين. ومذكراً أن الشريف الحسين مدفون في المسجد الأقصى حيث كان قد كلف من الشعب الفلسطيني عام 1924 بالوصاية على المقدسات الإسلامية والمسيحية فيها.
وأنا جازم أن الأمير الحسن بن طلال لم يتعمد بث رسالة سياسية في مقاله، بل أراد بث رسالة إنسانية نهضوية تسمح بإعادة بناء قطاع غزة والضفة الغربية. ولكنني أريد هنا أن أتحدث في الأطر الاقتصادية والسياسية التي تسمح بإعادة بناء غزة وتمكين الإعمار من الحصول لتصبح غزة هاشم جاهزة ليس لتلقي المساعدات، وإنما لزراعة الفسائل وبناء الأطر الإنتاجية الممكنة لأهل غزة حتى يكونوا فاعلين اقتصادياً واجتماعياً.
الحرب حتى كتابة هذه الأسطر لا تزال مستعرة، وتكاد في معظم حوادثها تكون من جانب واحد. فالاعتداءات الإسرائيلية ما زالت كثيرة، والمذابح مستمرة، وقتل الأطفال والنساء والرجال وجياع الدقيق قائم بدون هوادة. ونرى أن الجانب الفلسطيني المقاوم والذي فقد السيطرة على معظم أرض غزة يقاوم عن طريق التحرك المدروس، والمفاوضة على تبادل الأسرى والمساجين، والإصرار على انسحاب إسرائيل من أرض غزة كلها.
وبالمقابل، يقول الإسرائيليون إن غزة ما زالت تتعاطى مع التفاوض بغير واقعية. ولا أدري ما المقصود بمصطلح "بغير واقعية" ولا أعلم ما هو التعامل الواقعي الذي تريده هذه الحكومة الإسرائيلية المتخبطة من المقاومة.
وهناك استنتاج لا يكاد يختلف عليه كثيرون، وهو غياب القيادة الفعالة القادرة على إنهاء القتال في غزة، إما بشكل كامل ونهائي أو بشكل كامل طويل. والرئاسة الأميركية تقدم المساعدات العسكرية والذخائر لإسرائيل لكي تقتل الفلسطينيين في غزة وتهدم بها المستشفيات والمنازل. ولكنها تنادي في الوقت نفسه بضرورة قيام إسرائيل بالسماح بمرور كميات أكبر من المساعدات وتقرر إدارة جو بايدن بناء ميناء بحري عائم ومثير للجدل لنقل المساعدات من خلاله.
واستمعت إلى لقاء للدكتور عزمي بشارة ينتقد فيه إرسال المساعدات عبر الطائرات والبارشوتات بدلاً من إرسالها براً. ويقول إن من يرسلون المساعدات بالطائرات لا يمكن أن يرسلوها إلا بموافقة إسرائيلية، فلماذا لا يحصلون على موافقة بإرسال المساعدات براً؟ والجواب أن إرسال المساعدات جواً على محدوديته لم يأت صدفة، بل أتى نتيجة لمساومات مع الحكومة الإسرائيلية، وهو الخيار الوحيد المتاح. وأنا أقول إن استمراره ولو بخمس إلى ست طائرات يومياً أفضل من لا شيء، ولكن هذه الحكاية، وهي نقل المساعدات، قد صارت نقطة التركيز.
والحلول المتاحة براً أو جواً أو بحراً ما زالت خاضعة لمزاج إسرائيل حتى الآن. وهذا يعيد التأكيد أن قيادات العالم عاجزة عن وضع خطة منهجية لإنهاء القتال، ونقل المساعدات، والاتفاق على هندسة للمفاوضات القادمة لوضع حل نهائي يفضي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة مكتفية.
وقرأت في الوقت نفسه العديد من الرسائل الناقدة لقرار الرئيس محمود عباس اختيار الدكتور محمد مصطفى ليكون رئيس وزراء فلسطين القادم. علماً أن الرجل كما يقول لي كثيرون من معارفه إنه رجل مستقيم، وكفوء، وخبرته ودراسته تؤهله لأن يكون الخيار التكنوقراطي في هذه المرحلة، وأنه قادر على اجتذاب المساعدات لإعادة بناء غزة.
وهو بذلك قريب في مواصفاته وخبراته من الدكتور سلام فياض. فالثاني (د. فياض) عمل مدة في صندوق النقد الدولي، والأول عمل مدة طويلة في البنك الدولي.
وفي المقابل، نرى أن الحكومة الإسرائيلية ينطبق عليها عنوان فيلم أخرجه شون بين ومثل فيه دور رجل محكوم عليه بالإعدام. وتمثل المسافة (الميل الأخضر) بين الزنزانة وغرفة الإعدام مشوار رجل يسير نحو موته. وحكومة إسرائيل تتهيأ للسير على هذا الممشى نحو الانتهاء بعدما ارتكبت ما ارتكبته من جرائم وفظائع تقشعر لها الأبدان بحق الأطفال والنساء والرجال والأطباء والصحافيين والجوعى والمرضى ورجال الإسعاف والإطفاء، ولم تغادر في حملتها المسعورة صغيرة من الجرائم ولا كبيرة إلا ارتكبتها.
وإذا ما انتهت هذه الحكومة المجنونة، واستبدلت بغيرها، فإن من المرجح أن يكون رئيسها بيني غانتس، والذي يبدو أنه يحظى برضا الأميركيين.
وإذا توفر رئيسان للوزراء مقبولان لدى الإدارة الأميركية، فهذا يعني أن غزة دخلت مرحلة جديدة. ويبدو حتى كتابة هذه السطور أن غزة ستمر بثلاث مراحل متساوية من وقف إطلاق النار قد تصل مدتها إلى ثمانية عشر أسبوعاً، وبعدها يبدأ التنسيق من أجل إعادة البناء.
وتقدر تكاليف إعادة البناء حتى الآن بنحو 30 مليار دولار. والبعض يقول إن الكلفة ستفوق ذلك بكثير، وقد تصل إلى 60 مليار دولار. ولذلك بدأ السؤال الكبير يثور: من هي الجهات التي سوف تقوم بدفع تلك المبالغ؟
بالطبع الدول الكبرى في الغرب ودول الخليج هي التي ستدفع. وستكون هناك دول مستعدة للمشاركة في التمويل وفق ترتيبات خاصة إذا منحت عطاءات في عملية البناء. ومن هذه الدول على سبيل المثال لا الحصر الصين، كوريا الجنوبية والهند. وستكون هناك تبرعات من الدول الإسلامية.
والهند حالة تستحق الوقوف عندها، فقد أعلنت حكومتها وقوفها الصريح مع إسرائيل، ولكن الكثيرين يرون في الموقف الهندي الحكومي بقيادة ناريندرا مودي أنه مؤيد لحكومة نتنياهو. وإذا أرادت الهند فعلاً أن تشارك فيجب أن تتخلى عن تحالفها العنصري مع حكومة إسرائيل الحالية.
وسوف أقوم في نهاية الأسبوع الحالي بالسفر إلى الهند، وستكون تلك الزيارة موضوع مقالي القادم. وأتطلع إلى تلك الزيارة لما تنطوي عليه من حوارات مع مسؤولين في الحزب الحاكم.
والسؤال الذي يخطر على البال هنا: ما هي مسؤولية إسرائيل المتهمة بارتكاب جرائم حرب حيال إعادة الإعمار في غزة؟ ألا يتوجب عليها أن تتحمل كلفة إعادة البناء وتقديم التعويضات (Reparations) لأهل غزة الذين تسببت لهم بالنكبات والقتل والدمار؟ ألم يتلق يهود العالم مثل هذه التعويضات من ألمانيا بصفتها المتسبب في موت ملايين اليهود حسب الإحصاءات التي قدمتها المؤسسات والجمعيات اليهودية في العالم؟
أعتقد أن إسرائيل سوف تترتب عليها تعويضات وتمويل يتجاوز الـ50 مليار دولار لأهل غزة جراء هذه الحرب وحدها. فمن الذي سيضمن مثل هذا الامتثال؟
إذن، فقضية إعادة إعمار غزة ليست قضية إنسانية فحسب كما يركز عليها الإعلام الغربي، وأن غزة وأهلها مستحقون للعطايا والمنح شفقة عليها، ولكن لأن القانون الدولي يفرض على الجاني أن يعوض المجني عليه وهو حق وليس مِنّة ولا صدقة.
وليس أسوأ من أفعال الجيش الإسرائيلي المجرم إلا التبريرات التي يخرج بها الإسرائيليون بجمل مثل "اقتل امرأة فلسطينية حاملاً تقتل اثنين من الفلسطينيين"، أو القول "إذا لم تقتل الطفل الفلسطيني اليوم فإنه سيكبر ويقتلك"، أو تطبيق قاعدة الصفر على أرض فلسطين العائدة للفلسطينيين "إما نحن وإما هم على هذه الأرض".
إن قضية غزة معقدة كما يبدو بسبب غياب القيادة السياسية والخلقية والحقوقية في العالم، وتبيح للمعتدين القتل والاستغلال للضعفاء والمهمشين. وبالمقابل، فإن للإسلام ثقافة وحضارة تدافع عن هؤلاء، وتفتح لهم سبل العيش الكريم، كما يقول الأمير الحسن بن طلال.
ولو توفرت القيادة المنصفة عالمياً لما كانت مأساة غزة تطول، ولما تجاهل العالم جرائم إسرائيل قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، ولما سمح لإسرائيل بالتنصل من تبعات جرائمها.
ومن الدول الإسلامية التي ستنافس على إعادة إعمار غزة بالطبع إيران. فالجمهورية الإسلامية ترى أن لها دالة وواسطة من خلال المقاومة. ولكن هذا الأمر سيصطدم بجدار الممانعة العربية، وبخاصة الخليجية ودول الطوق، وكذلك تركيا التي ترى لديها الإمكانات والقدرات الفنية والمادية والبشرية للمساهمة بشكل فعال في بناء غزة.
وحتى تحصل هذه المساهمات، فإن المطلوب هو قيام كل من تركيا وإيران والمملكة العربية السعودية ومصر والأردن بالاتفاق على أطر وتفاهمات تصب في ذلك الهدف. والدول الأربع الهامة في منطقتنا بالإضافة للأردن لأهميته الجغرافية السياسية ولارتباطه القوي والأوثق بالقضية الفلسطينية، فإن بالإمكان أيضاً تحسين القدرة التفاوضية لهذه الدول.
إذا فاز ترامب بالانتخابات فإنه يتوعد بتغريم دول الخليج أضعاف ما أخذه منها في فترته الأولى.
ولا شك أن مشاركة قطر والإمارات من الخليج في اجتماع سباعي من هذا النوع سيكون له وقع ملموس في جعل المنطقة هي المنفذة والمقررة للإجابة عن سؤال المقال… من سيبني غزة؟