- تواجه الولايات المتحدة تحديات كبيرة تتعلق بتراجع هيمنتها العالمية أمام الصعود الاقتصادي والعسكري للصين وروسيا، مما يقلل من الفجوة النسبية بينها وبين هذه القوى.
- التحديات تمتد للبنية الفوقية العالمية حيث تسيطر الولايات المتحدة على النظام المالي والمؤسسي، لكن هذه السيطرة تثير التذمر والبحث عن بدائل، مما يعمق من تحدياتها في الحفاظ على هيمنتها العالمية.
أثارت المشاهد الأخيرة بالجامعات الأميركية دهشة الكثيرين، خصوصاً بعض المُنبهرين التقليديين بالولايات المتحدة، المؤمنين بسردية ديمقراطيتها ومؤسسيتها العتيدة التي تفاخر بها دوماً وتقدّم بها نفسها للعالم كقلعة الحرية الفردية بكل معانيها، وعلى رأسها حرية الفكر والتعبير عموماً، والسياسي خصوصاً، إذا بها فجأة، وأمام تحدّ صغير أثارته مظاهرات الطلبة الأميركيين المُتعاطفين مع الشعب الفلسطيني والغاضبين بدوافع من بديهيات الأخلاق والإنسانية من عملية الإبادة الجماعية التي يقوم بها الكيان الصهيوني الإجرامي في غزّة، بدأت تسلك بطرائق عدوانية واستبدادية تذكرنا بمرحلتها المكارثية بعد الحرب العالمية الثانية، بل ولا يختلف بعضها جزئيًا عما تفعله الأنظمة العالمثالثية، الهشّة سياسياً ومؤسسياً والعنيفة أمنياً، التي لا تحتمل أيّ مُعارضة أو اختلاف، طارحةً عنها كل شعارات ومظاهر الديمقراطية الكبرى في العالم.
والواقع أن هذا الموقف الذي قد يبدو داخلياً ومحلياً لا يمسّ الشأن الدولي جوهرياً، هو في صميم وصُلب الموقف الدولي للولايات المتحدة، بل ويعبّر عن كامل الوضع التاريخي المُتناقض لهيمنتها العالمية، تلك الهيمنة التي تعاني أزمة مشروعية ضخمة؛ نتاجاً للتناقض ما بين البنية التحتية العالمية التي تراجعت ضمنها القوة الواقعية الأميركية مادياً وهيكلياً، والبنية الفوقية العالمية التي لاتزال تتسيّدها تلك القوة مؤسسياً ورمزياً.
فعلى مستوى البنية التحتية العالمية، تسيطر الصين وحدها اليوم على نحو 30% من الصناعة العالمية، بما فيها بعض أكثر الصناعات عمقاً إنتاجياً وتقنياً، وبعض أعلاها تقدما على سلاسل إنتاج القيمة العالمية، كذا تراجعت القوة العسكرية الأميركية نسبياً؛ ليس بتراجع قواها المُطلقة على صعيديّ الاقتصاد والتكنولوجيا، بل بتحسّن أوضاع القوى الأخرى بالتوازي مع تحسّن اقتصاداتها وتطوّرها التكنولوجي؛ ومن ثم تقلّص الفارق النسبي بينها وبين هذه القوى؛ إلى حدّ أن قوى عالمثالثية متوسطة كإيران أصبحت تمتلك اليوم قوة صاروخية يُحسب لها حساب على مستواها الإقليمي على الأقل؛ وبما يفسّر كذلك ما يبدو كاستراتيجية بوتينية ببيع الأسلحة الروسية المتقدمة نسبيا للقوى المتوسطة في العالم، كهدف قائم بحدّ ذاته، ربما يتجاوز هدف المكاسب المالية المباشرة، إلى إضعاف الموقف النسبي للقوة العسكرية الأميركية؛ بتقوية الآخرين عبر تقليص فارق القوة النيرانية وفاعلية القدرة الهجومية والتهديد بالقوة لدى الفاعل الأميركي، كما يفعل ببيع منظومات الدفاع الجوي الحديثة (إس 300) و(إس 400) للهند وغيرها في الأعوام الأخيرة.
هذا التقلّص في القوة النسبية يجعل هذه القوى، المتوسطة خصوصا، أكثر قدرة على اتخاذ المزيد من المواقف المُستقلة في مواجهة الإملاءات الأميركية؛ بما يجعل الأخيرة أقل قدرة على حشد القوى ضد خصم صريح كروسيا، وبما يعزّز موقف روسيا النهائي، التي يعلم بوتين جيداً كونها غير قادرة وحدها على مواجهة الولايات المتحدة.
في المقابل، على مستوى البنية الفوقية، لا تزال الولايات المتحدة تسيطر على البنية النقدية والمالية والمؤسسية العالمية، مُجسّدة في الدولار والنظام المصرفي الغربي والمنظمات الاقتصادية الدولية الكبرى، بما لأميركا فيها كلها من موقع مُهيمن، أصبح يثير كثيرا من التذمّر الذي يصل حد التمرّد العلني والبحث عن بدائل؛ مع إفراط الولايات المتحدة في توظيفها لمصالحها الضيقة على حساب حتى أقرب حلفائها بأوروبا الغربية.
وقد كشفت العقوبات، مُعضلة الرمال المتحرّكة التي نتحدث عنها هنا، وهى أن كل محاولة لاستخدام الولايات المتحدة لأسلحتها على مستوى البنية الفوقية العالمية، ستصطدم بتناقضها مع قوتها النسبية المتراجعة على مستوى البنية التحتية العالمية؛ لتكتشف ليس فقط تراجع فاعليتها النسبية، بل لتواجه كذلك المزيد من التمرّد الصريح والارتدادات العكسية السلبية على استخدامها هذه الأسلحة؛ ومن ثم التهديد المستقبلي بخسارتها كلياً، وكأن تراجع الهيمنة الأميركية قد غدا نوعاً من كُثبان الرمال المتحركة، كلما حاولت مقاومته؛ غرقت وتردت في المزيد منه!
ظهر ذلك بشكل واضح في ضعف فاعلية العقوبات الغربية على روسيا، التي أكّدت الدراسات مشروطية نجاحها بمشاركة الصين فيها؛ مصداقاً لوزنها الكبير في التجارة والاقتصاد العالميين، وهو الأمر الذي لم يحدث سوى على نطاق محدود، بما يؤكد كذلك قدرة الصين على الاستقلال بقراراتها الاقتصادية والسياسية، رغم مصالحها الضخمة مع الأسواق الغربية، بل واتسع الأمر ليشمل العديد من الدول الأخرى كالهند وإيران وفنزويلا وغيرهم؛ بما يؤكد بشكل صارخ تراجع قدرة الغرب بمجموعه، وليس الولايات المتحدة وحدها، على إجبار الآخرين على التزام خطوطه وسياساته، حتى فيما يعتبره بعض أكبر معاركه.
كما يظهر ذات النمط على صعيد الدولار، الذي حذّر الملياردير الأميركي راي داليو، مؤسس صندوق تحوّط "Bridgewater Associates"، من تراجعه في الاحتياطيات الدولية لدى العديد من الدول؛ تماشيا مع تغيّر مشهد التجارة الدولية والاقتصاد العالمي لمصلحة الصين، وما تعقده من اتفاقات تعامل ثنائي بعملتها اليوان مع العديد من القوى الاقتصادية المتوسطة والصاعدة كروسيا والبرازيل وغيرهم، حيث أعاد تأكيد ذلك ضمن تحذيره من مخاطر استغلال الدولار سلاح عقوبات، مُتفقاً مع العديد من الاقتصاديين والخبراء الأميركيين، في أنها قد تؤدي إلى تسارع تراجع دور الدولار بوصفه عملة السيولة الدولية الأساسية، مؤيدين للمُفارقة وصف بوتين نفسه لها بـ "الخطأ الاستراتيجي الكبير"، الذي ستكون الولايات المتحدة نفسها أكبر المتضرّرين منه، بعضّها اليد التي تطعمها وبتقويضها سيادتها النقدية عالمياً، بما تمثله من حجر زاوية لقوتها العالمية.
وهذا السلوك التعويضي من الولايات المتحدة، بالإفراط في استغلال قواها على صعيد البنية الفوقية العالمية، النقدية والمالية والمؤسسية، وضمن سياق تراجع قوتها على صعيد البنية التحتية العالمية؛ لتحقيق أهدافها ومصالحها القومية الخاصة، هو مما يضرب مصداقيتها العالمية ومشروعية هيمنتها في مواجهة بقية العالم، خصوصاً ما يقوم منهما على ائتمان أميركا على ما يعتبر مرافق عالمية لجميع الدول، كعملة السيولة المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية؛ ليرتّب مزيداً من تفكك هذه الأدوات، ومعه مزيداً من الضعف في نطاق تأثيرها وشبكة تحالفاتها.
وما يدفعنا للقول بأهمية الموقف السلطوي الأميركي في مواجهة الاحتجاجات الطلابية الأخيرة، وصلته بكامل الوضع العالمي للولايات المتحدة، ليس فقط ضربه لسرديات مركزية في القوة الناعمة الأميركية، التي أكّد على أهميتها الخاصة الإستراتيجي الأميركي البارز جوزيف ناي، بل لدلالاته الخطِرة كذلك عن مدى هشاشة تلك السرديات والدعاوى في سياق الشعور الذاتي بالتراجع؛ بالنظر لمحدودية وخطورة القضية الفلسطينية بعمومها للمجال الأميركي نفسه.
فإذا كانت الولايات المتحدة قد ذهبت إلى حد اعتقال طلابها والتعدّي على أساتذة جامعاتها وتهديد محكمة العدل الدولية وغيره لمجرد الدفاع عن إسرائيل، التي لا تمثّل في النهاية سوى مجرد حليف صغير مهما زادت أهميته، فإلى أيّ مدى قد تذهب إن تعرّضت هي نفسها لتحديات حقيقية لهيمنتها وكامل وضعها الاقتصادي والسياسي العالمي ضمن المواجهة الأكبر لعصرنا الحالي مع قوى الشرق، وفي قلبها وعلى رأسها الصين؟
فهذه العدوانية المعتبرة في مواجهة تحديات لا تزال شديدة المحدودية، والتي دفعت العديد من الاستراتيجيين الأميركيين أنفسهم للتحذير من خسائر الولايات المتحدة عالميًا من استمرار دعمها الأعمى لإسرائيل، تعطينا فكرة واضحة عن مدى عدوانيتها المُحتملة، بما تتضمّنه من تكاليف وخسائر أكبر بكثير، حال تعرّضت لتهديدات أكبر وصراعات أضخم، خصوصاً مع سقوط السرديات التي تقوم عليها قوتها الناعمة، وتبرّر بها مشروعية هيمنتها؛ ومن ثم تعرية الموقف للجميع بكونها مجرد حرب هيمنة ذاتية لا تخصّ أحداً سوى الولايات المتحدة نفسها، دون مصلحة إنسانية عامة أو قيمة عالمية أكبر؛ بما يزيد من عُزلتها السياسية وانفضاض الحلفاء عنها، كلما أوغلت في العدوانية تجاه قواعد النظام الدولي التي ما فتئت تزعم إرسائها والدفاع عنها، بل وفرضها على الآخرين بالقوة!
إنه تناقض المشروعية الذي تواجهه الولايات المتحدة، مُمثلاً في التناقض المُتصاعد ما بين المتطلبات البراجماتية لاستمرار هيمنتها الدولية مستحيلة الاستمرار من ناحية، والصيغة التي شرعنت بها هذه الهيمنة باعتبارها حامية لـ، ومُتمركزة ضمن، نظام دولي يستند لقواعد القانون والعدالة من ناحية أخرى، وفي هذا تسهم فضائحها المُتزايدة مؤخراً بسبب الإجرام الإسرائيلي في فلسطين، على الصعيدين الدولي والمحلي معاً، في توسيع ذلك الشرخ في المشروعية.
وجُملة القول، تواجه الهيمنة الأميركية اليوم ثلاث معضلات مترابطة متآزرة: الأولى: هي تراجع المكانة النسبية الأميركية على صعيد البنية التحتية العالمية، أي وزنها النسبي في الصناعة والاقتصاد العالميين، اللذيّن وإن ظلّت تحتل فيهما مكانة مهمة بالمعنى المُطلق، فإنها تتراجع فيهما بالمعنى النسبي؛ نتيجة تزايد حصص ومكانة الآخرين فيهما، خصوصاً الصين؛ بما يعنيه ذلك ويفرضه من حتمية تغيّر البنية الفوقية العالمية بما يتوافق ويتناسب مع الأوضاع النسبية الجديدة؛ ما يثير صراعات بين القوى الغربية وفي قلبها الولايات المتحدة، المصرّة على الاحتفاظ بحصتها ومكانتها القائمة الموروثة، والقوى الصاعدة الطامحة والمتشوّفة حتماً لما يتناسب مع أوضاعها الجديدة.
الثانية: لم تعد الولايات المتحدة قادرة على حسم الخلافات الدولية وفرض إرادتها المُنفردة بمجرد التهديد كما كانت تفعل سابقاً، ليس فقط مع الخصوم الكبار، بل حتى مع الخصوم المتوسطين؛ نتيجة لتراجع فارق القوة النسبي بينها وبين الآخرين؛ بحيث لم يعد يكفي مجرد التلويح به لإجبارهم على الامتثال لإرادتها، بل أصبح يتطلّب تفعيلاً مادياً له بعمليات عسكرية صريحةً؛ بكل ما له من تكاليف كبيرة مباشرة على صعيد قوتها الاقتصادية والعسكرية من ناحية، وتكاليف غير مباشرة على صعيديّ مصداقيتها العالمية وقوة تحالفاتها الإقليمية من ناحية أخرى.
الثالثة: أن الضعف النسبي في موقفها العالمي مقارنة بالسابق، يجلب عليها مزيداً من الضعف، أي من العجز على فرض إرادتها المُنفردة؛ حيث يشجّع تمردّ بعضهم ونجاحه الآخرين على التمرّد بالمثل (بمختلف درجات ذلك التمرّد)؛ بما يعمّق من اتجاه تراجع هيمنتها وقدرتها على إجبار الآخرين (ما يفسّر العدوانية الشديدة تجاه روسيا في العامين الماضيين)، كما أنه كلما أصبحت الهيمنة محل تساؤل وشك، خصوصاً مع الاهتزاز المتزايد للمشروعية؛ كلما أدت محاولات تعزيزها أو توظيف أسلحتها محل مقاومة متزايدة وردود أفعال تضعف فاعليتها في الأجل القصير، بل وتنهيها كليًا في الأجل الطويل.
لتصل بنا هذه المُعضلات الثلاثة إلى مُعضلة الرمال المتحركة المذكورة، حيث كل مقاومة تحاولها أميركا في مواجهة تراجع هيمنتها، لا تفعل سوى المزيد من إبرازه وحتى تعميقه، إنها الرمال المتحرّكة لتراجع الهيمنة، حيث تؤدي كل مقاومة له إلى مزيد من الغرق فيه.