ماذا يعني أن تضع وكالات تصنيف أميركية عملاقة الديون السيادية للاحتلال الإسرائيلي قيد المراجعة، في الوقت الذي تلقى حكومة بنيامين نتنياهو دعماً ظاهرياً غير محدود من واشنطن وحلفائها بالسلاح والعتاد والأموال والمواقف المساندة لعدوانه المتواصل على الفلسطينيين؟ ثم ما أهمية التصنيف وكيف من شأنه أن ينعكس على تمويلات حكومة كيان الاحتلال؟
تجدر الإشارة، بدايةً، إلى تأكيد وكالة "رويترز"، أمس الجمعة، أنه لم يسبق من قبل خفض تصنيف إسرائيل من جانب أي من وكالات التصنيف الثلاث الرئيسية، وهي "ستاندرد اند بورز غلوبال" و"موديز" و"فيتش"، رغم أن الأخيرتين وضعتا هذا الأسبوع قيد المراجعة تصنيف الديون السيادية الإسرائيلية الطويلة الأجل البالغ حالياً "إيه1" (A1)، تمهيداً لاحتمال خفضه.
لكن كيف بررت الوكالتان هذا الإجراء؟
لقد أعلنت "موديز" هذا القرار عبر بيان أصدرته في وقت متأخر من يوم الخميس الفائت، بعد يومين من خطوة مماثلة من "فيتش" التي وضعت تحت المراقبة السلبية علامة الدين السيادي الطويل الأجل والقصير الأجل بالعملات الأجنبية والمحلية.
في تسويغ قرارها، عزت "موديز" هذه الخطوة التاريخية إلى ما اعتبرته "النزاع المفاجئ والعنيف بين إسرائيل وحماس"، محذرة من أن التداعيات الأخطر لهذا النزاع هي "كلفته البشرية"، وإلى ارتباطه "بتداعيات الحوادث الأخيرة على الائتمان".
وأشار إلى أن توقعاتها للديون السيادية الإسرائيلية "كانت في السابق مستقرّة"، إلا أنها ستدرس خلال المراجعة مستقبل الحرب الراهنة وتداعياتها "بتقييم ما إذا كان من الممكن أن يتحرك النزاع باتجاه حل أو ما إذا كان هناك احتمال لتصعيد كبير ولفترة طويلة".
من ناحية تفصيلية، ستركز مراجعة "موديز" على "المدة المحتملة للنزاع ونطاقه، وعلى تقييم آثاره على المؤسّسات الإسرائيلية، لا سيما فعالية سياساتها وماليّتها العامة واقتصادها"، على أن "فترة المراجعة يمكن أن تكون أطول من الأشهر الثلاثة المعتادة".
لكنها، في كل الأحوال، حذرت من أنه "كلما كان النزاع العسكري أطول وأكثر حدة، زاد تأثيره على فعالية السياسات والمالية العامة والاقتصاد" في دولة الاحتلال.
ومع ذلك، أشارت إلى أنه "حتى إذا كان النزاع قصير الأمد يمكن أن يكون له تأثير على الائتمان.
ويحاكي تسويغ "موديز" تبرير "فيتش" احتمال خفض التصنيف يوم الثلاثاء الفائت، "بتزايد خطر اتساع النزاع ليشمل اشتباكات عسكرية واسعة مع جهات فاعلة عديدة، لفترة طويلة"، مشيرة بالتحديد إلى "حزب الله وجماعات مسلحة إقليمية أخرى وإيران".
بيد أنها قالت إن التصنيف قد لا يُخفض إذا جرى "خفض للتصعيد، بما يحد من مخاطر التأثير المادي طويل الأمد على الاقتصاد والمالية العامة" لدولة الاحتلال.
وهذا ما دفع بكلفة التأمين على ديون الحكومة الإسرائيلية باستخدام ما يعرف بمبادلات مخاطر الائتمان السيادي إلى تسجيل قفزة كبيرة، علماً أن المستثمرين يستخدمون مبادلات مخاطر الائتمان إما كأداة للحماية أو للمضاربة.
وخلال الأسبوع الماضي، ارتفعت كلفة شراء المبادلات لدولة الاحتلال بنسبة 80%.
وكان لافتاً أن تسارع "موديز" إلى إصدار تقريرها، بعد عاصفة انتقادات لإعلانها، الأحد الماضي، تأجيل نشر التصنيف الائتماني الجديد لدولة الاحتلال، مبررة ذلك بالتطورات العسكرية القائمة في المنطقة، مع إعلانها أن الموعد المقبل لإصدار تقرير حول الاقتصاد الإسرائيلي.
ونشر التصنيف الجديد لها، سيكون بعد 6 شهور، علماً أن الوكالات عادة ما تنبري لخفض التصنيف بعد أيام من بدء الحروب، كما حصل مع أوكرانيا إثر الغزو الروسي.
وقد بدا التأجيل بمثابة خدمة كبيرة للاقتصاد الإسرائيلي الذي كان يتحضر لخفض التصنيف، نظراً لما يكابده من أزمات عميقة ومتصاعدة بسرعة منذ بدء عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري.
مع ما أدى إليه ذلك من هبوط كبير للشيكل إلى أكثر من 4 شواكل مقابل الدولار الأميركي، تزامناً مع تدهور مؤشرات بورصة تل أبيب، وهروب المستثمرين وانسحاب الشركات الدولية، وتزايد المشكلات النقدية مع تصاعد الإنفاق الحربي، وسط توقعات واسعة من قبل خبراء الاقتصاد الإسرائيليين بتراجع النمو الاقتصادي ككل.
وثبت تصنيف "موديز" للاقتصاد الإسرائيلي من دون تغيير لمدة 15 عاماً منذ رفعه إلى "إيه1" في العام 2008، بينما تمنحه "فيتش" تصنيفها الموازي البالغ "إيه زائد" A+، ويزيد تصنيف "ستاندرد أند بورز" بدرجة واحدة هي "إيه إيه ناقص" AA-،.
ومن المقرر أن تحدث تصنيفها في نوفمبر/ تشرين الثاني القادم، علماً أن "موديز"، قبل العدوان على غزة، كانت قبل عدة أشهر قد حذرت من أن خطط نتنياهو للإصلاح القضائي وعدم الاستقرار السياسي الذي تنتجه يمكن أن يؤثرا على التصنيف الائتماني.
وبالعودة إلى المواقع الإلكترونية لوكالات التصنيف الثلاث، تعني المرتبة التي تضع فيها "موديز" و"فيتش" أن وصف التصنيف الحالي البالغ عندها "إيه1" و"إيه زائد"، أن التصنيف يقع في درجة عالية إلى متوسّطة على المدى الطويل، وهو يأتي بالمرتبة الخامسة عند الوكالتين.
فالمراتب الأربع الأولى عند "موديز" هي "Aaa" التي تعبّر عن تصنيف "ممتاز" تليها "Aa1" و"Aa2" و"Aa3" وكلها، رغم تفاوتها، تأتي ضمن مجموعة "الدرجة العالية". وتوازيها عند "فيتش" على التوالي مراتب "AAA" و"AA+" و"AA" و"AA-".
وعليه، يبقى تصنيف الاقتصاد الإسرائيلي حالياً ضمن المجموعة الثانية من التصنيفات وهي "الدرجة العالية"، وفقاً لوكالة "ستاندرد أند بورز"، والمجموعة الثانية (الدرجة العالية إلى المتوسطة) بحسب "موديز" و"فيتش"، ما يعني أن اقتصاد الاحتلال لا يزال يتمتع بتصنيف من الفئة الأولى حتى الآن، أي درجة الاستثمار (Investment Grade)، وبالتالي، فإن أي خفض بدرجة واحدة مثلاً لن يخفضه إلى خانة الفئة الثانية وهي "درجة المضاربة" (Speculative Grade).
وليس معلوماً بالضبط مدى التدخل في آليات قرار وكالات التصنيف ومستوى المهنية التي يتمتع بها معدّوها، لأن عملها، وهي كلها مؤسّسات أميركية خاصة غير حكومية، تختلف حياله وجهات النظر، بين من يرى أن تقاريرها تقنية بحتة قائمة على أُسس ومنهجيّات ومقاربات علمية دقيقة، ومن ينظر إليها بعين الرِيبة المنطلقة من "التسييس" في بعض الحالات بضغط من الدول المؤثرة، كالولايات المتحدة، والمنظمات الدولية، مثل "صندوق النقد الدولي" و"مجموعة البنك الدولي" وغيرها.