تشهر الولايات المتحدة والدول الأوربية سلاح استبعاد روسيا من النظام المالي العالمي، ومنع مصارفها من استخدام نظام "سويفت" للمدفوعات العالمية بين البنوك، كأقصى العقوبات الاقتصادية، على غزوها الجارة أوكرانيا، وقصفها حتى الآن ألف منشأة، بما فيها مرافق للطاقة.
وبذلك، تغدو روسيا لجهة خدمة المراسلات الخاصة بالتعاملات والمدفوعات المالية أشبه بمنشأة من دون طاقة تحرك خطوط إنتاجها، بعد عزلها عن الرسائل والمعلومات بين جميع أسواق المال، وشلّ عمليات تحويل المبالغ بين المصارف والمؤسسات المالية بالخارج، وإيقاف أوامر الشراء والبيع للأصول.
وتُعزل روسيا بالتالي عن 11507 مؤسسات مالية مشتركة في النظام الذي يشمل 200 دولة حول العالم، فيترنح اقتصادها، بعد توقف الإمداد بما يتطلبه الداخل الروسي من الخارج، سواء من مواد أولية أو قطع صناعية، وما يلزم عجلة الاقتصاد للدوران.
بيد أن سؤالين اثنين يبرزان لكل من يطلع على القرار الغربي الصادر أمس السبت. الأول، هل يمكن للملوّحين، خاصة الدول الأوروبية، أن يُقصوا المؤسسات المالية الروسية عن "سويفت" وتعريض شركاتها ومصارفها واقتصادها لعواقب وقف الأموال، أم سيتخذ الملوحون حلاً وسطاً، بأن يفرضوا عقوبات على المصارف والمؤسسات المعاقبة سابقاً، ضمن سلاح العقوبات المالية التي تتعاظم تباعاً، كتجميد أصول الرئيس فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف، لتضاف إلى القائمة، وكإدراج مجلس الدوما (النواب) وبعض أعضاء مجلس الأمن الروسي على القائمة الأوربية السوداء، ومعاقبة كبار رجال الأعمال وتجميد الأصول لأشخاص ومؤسسات، وتقييد الإيداع والسحب، حتى للروس خارج بلادهم؟
ومفاد السؤال الثاني، إلى أي حد يمكن للعزلة المصرفية أن تعيد المستقوي بوتين إلى بيت الطاعة، رغم فشل التجربة سابقاً، خاصة مع إيران التي لا يمكن مقارنة حجم اقتصادها بالاقتصاد الروسي الذي يطعم الملايين ويمد عُشر دول العالم باحتياجاتها من الطاقة؟
هذا إن لم نأت على احتياطي روسيا من العملات الصعبة الذي يناهز 640 مليار دولار، وهو ضعف ما كان عليه خلال العقوبات بضم شبه جزيرة القرم عام 2014، ولم نبحث في لجوء المصارف الروسية للابتكار في التواصل مع النظام المالي، عبر مؤسسات متعددة الجنسية متصلة بشبكة سويفت، ولم نتطرق إلى إمكانية الالتفاف على العزل، كما فعلت إيران وقبلها العراق، وقبلهما كوريا الشمالية وكوبا، عبر أطراف ثالثة، بعضها أوروبي مؤيد على المنابر للعقوبات الأميركية والدولية، كما حدث مع مصرف "بي إن بي باريبا" الفرنسي، الذي تم كشفه وعوقب بعد تحويله أموالاً لإيران بين أعوام 2004 و2012.
وطبعاً، إن لم نذكر بتحسب موسكو من ذي قبل، سواء باعتمادها عملات محلية خلال تجارتها مع حلفائها، كما أعلنت شركتا "روسنفت" و"غازبروم نفت"، أو حتى الدفع بالعملات الرقمية التي زاد إنتاج روسيا منها.
نهاية القول: الأرجح أن عزل روسيا عن الخارج، مالياً ومصرفياً، مع عقوبات على المصرف المركزي، ستؤثر لدرجة الشلل على الاقتصاد الروسي، بيد أن تلك العقوبات لن يكون لها مفاعيل سريعة ومباشرة، تعيد لقيصر الكرملين صوابه، كما تحاول أن توحي به الدول التي دفعت بأوكرانيا للمواجهة.
بل يمكن لإغلاق جميع الأبواب أمام الدب الروسي أن تدفعه إلى ما لم تتوقعه الدول الأوروبية، بعد أن اختبر مراراً أقصى ردودها وأقسى أفعالها، خاصة بعد ضمه بالقوة شبه جزيرة القرم قبل أعوام قليلة.
كما أن الإجماع الأوروبي والأميركي على روسيا سيسرّع من اكتمال ملامح القطب المناوئ بجسده الصيني ورأسه الروسي، وربما بذيول كثيرة، فينقلب السحر على الساحر، ويدخل العالم بأسره بشكل صراع جديد منطلقه الجغرافية والتحالفات، ومنتهاه ذهاب ريح واشنطن عن عرش القرار العالمي.
هو الزمن الذي يخطؤه الشمال دائماً، فالتردد والتأجيل بالتعاطي مع البلطجة الروسية، منذ أفغانستان فالشيشان وصولاً للقرم واليوم أوكرانيا، حوّل الدب الروسي إلى نمر مستهتر، كما أن إشاحة الوجه عن طغاة العالم ومستبديه، والاكتفاء بعقوبات تدفع أثمانها الشعوب، حوّل، على سبيل الذكر، السوريين إلى جياع والقط في دمشق إلى أسد متوحشّ.