أخيرا تخلى البنك المركزي التركي عن عناده وقرر التراجع، ولو مؤقتا، عن سياسة خفض سعر الفائدة التي كان ينتهجها طوال الفترة الماضية، وهي السياسة التي طبقها تحت ضغوط شديدة من أردوغان وحكومته، ورغم تهاوي سعر الليرة وحدوث قفزات في معدل التضخم لم تصل إليه البلاد منذ العام 2002.
فقد ثبّت البنك المركزي اليوم، الخميس، سعر الفائدة عند 14%، وبذلك يتراجع عن موقفه التقليدي وهو مواصلة خفض الفائدة، ويستجيب أخيرا للتحذيرات المحلية والعالمية من آثار تخفيض سعر الفائدة المتواصل على معدل التضخم الذي قفز إلى أكثر من 36% خلال شهر ديسمبر الماضي، وأدى إلى هبوط سعر العملة المحلية لتصل لأكثر من 18 ليرة للدولار يوم 19 من الشهر الماضي قبل أن تتحسن إلى 13.4 ليرة حالياً.
التركي لم يلحظ تغيرات إيجابية ترتبت على سياسة خفض الفائدة، بل زادت اضطرابات سوق الصرف وقفزت الأسعار
ورغم إعلان أردوغان وحكومته أكثر من مرة الاستمرار في سياسة خفض سعر الفائدة، إلا أنه كان من الصعب على البنك المركزي أن يعاند أكثر من ذلك ويواصل تلك السياسة، لعدة أسباب أولها أن الخفوضات السابقة في سعر الفائدة تبعها مباشرة تهاوٍ في قيمة الليرة، وقفزة في معدل التضخم، وتكالب المدخرين على حيازة العملات الأجنبية وفي مقدمتها الدولار واليورو، والتخلي عن العملة المحلية التي فقدت نحو نصف قيمتها في العام الماضي.
ثاني الأسباب هو أن المواطن التركي لم يلحظ تغيرات إيجابية ترتبت على سياسة خفض الفائدة إلى 14%، بل العكس هو ما حدث حيث زادت اضطرابات سوق الصرف وهربت الأموال الساخنة.
وهذه الاضطرابات كلفت البنك المركزي التركي نحو 18 مليار دولار اضطر لضخها في سوق الصرف خلال الفترة الماضية لتهدئة سعر الدولار الهائج وتلبية الاحتياجات الدولارية للبنوك وعملائها من المستوردين والمستثمرين.
ثالث الأسباب يتعلق بالتطورات المرتقبة على الساحة العالمية من توقعات باندلاع اضطرابات اقتصادية ومالية في الأسواق الناشئة، عقب رفع البنك المركزي الأميركي سعر الفائدة على الدولار وبواقع 4 مرات خلال عام 2022، وهو الأمر الذي سيضغط بشدة على عملات كل الأسواق الناشئة، خاصة الدول التي تتوسع في الاقتراض الخارجي مثل مصر وتركيا.
من الصعب على المركزي التركي الاستمرار في سياسة خفض الفائدة في الوقت الذي تتجه فيه البنوك المركزية العالمية لرفع السعر
وبالتالي فإنه من الصعب على البنك المركزي التركي الاستمرار في سياسة خفض الفائدة في الوقت الذي تتجه فيه البنوك المركزية العالمية لرفع السعر، ومن المتوقع أن تتعرض الليرة لضغوط شديدة خلال الفترة المقبلة.
السبب الرابع يكمن في أن سياسة الاستقلال المالي والاقتصادي التي تتبناها تركيا وتقوم على فكرة مكافحة التضخم عبر زيادة الإنتاج وخفض سعر الفائدة تصلح على المدى البعيد وليس على المدى القصير، وأن اضطرابات أسواق الصرف تحتاج إلى حلول عاجلة لمخاطرها الشديدة على الاقتصاد والمواطن، وإذا أرادت تركيا السير في هذا الطريق فإن عليها تبني سياسات طويلة ومتوسطة الأجل يجري تطبيقها على مدى سنوات.
تثبيت البنك المركزي التركي سعر الفائدة أمس قرار حكيم وعاقل، والمطلوب منه في الفترة المقبلة هو استعادة الثقة في الليرة التركية، وهذه لا تتم عبر خفض سعر الفائدة، بل عبر زيادة التدفقات الدولارية من الخارج، خاصة من قطاعات حيوية مثل الصادرات والسياحة والعقارات والاستثمارات الأجنبية وتحويلات المغتربين.
والأهم طمأنة المواطن الذي سحب مدخراته من البنوك وبات يمتلك مليارات الدولارات في البيوت وتحت البلاطة، وفي حوزته أطنان من الذهب والفضة والمعادن بعيداً عن شرايين الاقتصاد.