لا صوت يعلو فوق صوت الانتخابات التركية المقرر إجراؤها يوم 14 مايو/ أيار الجاري، ليس فقط داخل تركيا ولكن في العديد من الدول الأخرى، ولا نبالغ إذا قلنا إن دول الاتحاد الأوروبي في مقدمتها، فبعد 20 عاماً كاملة في الحكم يواجه حزب العدالة والتنمية منافسة شرسة من تكتل من أحزاب المعارضة، وفي مقدمتها حزب الشعب الجمهوري الذي أزاحه أردوغان عن الحكم بعد سيطرة تاريخية على مقاليد البلاد للعديد من العقود السابقة.
وتتسلل المعارضة من نافذة اشتعال فتيل التضخم في البلاد خلال العامين الأخيرين حتى لامس حدود 100% بنهاية العام الماضي، وتراجع المستوى المعيشي للفئات الدنيا والمتوسطة، وذلك على أثر التراجع المستمر لسعر صرف الليرة، بينما تستند حكومة أردوغان إلى سلسلة متصاعدة من الإنجازات الملموسة التي نقلت البلاد فعلياً إلى مصاف الدول صاحبة النموذج الاقتصادي والتجربة التي يمكن أن تحاكيها الدول المتطلعة للتنمية، وذلك على الرغم من العديد من الصعوبات التي من الطبيعي أن يواجهها النموذج التنموي للاقتصاد التركي المتجه نحو الصعود.
ويستند النموذج إلى تعظيم معدلات الاستثمار والتوظيف وفائض الحساب الجاري، ولعل ذلك ما يفسر إصرار الدولة التركية على سياسة خفض معدل الفائدة، في الوقت الذي تتجه فيه معظم البنوك المركزية حول العالم إلى سياسات نقدية متشددة.
وعلى الرغم من الصعوبات التي تواجهها الليرة فإن سرعة التعافي من تداعيات فيروس كورونا والنجاح في استثمار تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية لصالح الاقتصاد التركي واستمرار تصاعد مؤشرات الاقتصاد في أعقاب الزلزال المدمر الذي أصاب أكثر من ربع المساحة الجغرافية والإنتاجية للبلاد تؤكد بوضوح نجاح فلسفة نموذج ونهج حزب العدالة والتنمية.
والحقيقة أن حقبة حكم أردوغان نقلت تركيا إلى مكان ومكانة سياسية واقتصادية مرموقة لا يمكن تجاهلها، كما نجحت في رفع المستوى المعيشي والرفاهية للشعب التركي متغلبة على معظم المشكلات الاقتصادية الكبيرة الموروثة من فترات الحكم الممتدة لحزب الشعب الجمهوري، حتى بات الاقتصاد التركي إنتاجياً، يكتفي ذاتياً زراعياً وصناعياً بنسب كبيرة، بالإضافة إلى انتشاره وتوازن توزيعه على كامل أراضي الدولة، علاوة على قدراته التنافسية الدولية العالية والتي ترسخت بفضل بنية مواصلات واتصالات موضعت تركيا كمحطة عملاقة لتخزين وتوزيع الحبوب والغاز عالمياً، وصب كل ذلك في ترسيخ صورة ذهنية شديدة الإيجابية عن الدولة التركية شكلت داعماً لتوافد عشرات الملايين من السياح نحو البلاد التي أضحت واحدة من أكبر عشر وجهات سياحية عالمية.
رفع الحد الأدنى للأجور لمواجهة التضخم
لم تقف الحكومة التركية موقف المتفرج تجاه التصاعد المحموم لمعدلات التضخم في البلاد، بل بادرت برفع الحد الأدنى للأجور مرات عدة، ووفقاً لتصريح أردوغان " لن نترك مواطنينا فريسة للتضخم"، وفي مطلع العام الحالي أعلن الرئيس التركي رفع الحد الأدنى للأجور إلى 8 آلاف و506 ليرات (نحو 455 دولاراً) اعتباراً من بداية يناير/ كانون الثاني 2023، وبذلك بلغت الزيادة في الحد الأدنى 100% مقارنة بيناير الماضي و54.66% مقارنة بتموز/ يوليو الماضي، كما بلغ متوسط الزيادة السنوية بلغ 74.43%.
لم يكتفِ الرئيس بذلك، بل أعلن عن زيادة جديدة متوقعة في منتصف العام الحالي حيث من المتوقع أن يبلغ الحد الأدنى ما يزيد عن عشرة آلاف ليرة، وتشير تلك الزيادات إلى حرص كبير من الإدارة التركية على رفع الأعباء التضخمية عن كاهل المواطنين، خاصة أن الزيادة تطبَّق على القطاعين الحكومي والخاص، وكذلك جاءت تلك الزيادات على الرغم من التراجع الملحوظ لمعدلات التضخم في البلاد والتي تناقصت إلى أقل من 50% خلال الشهرين الماضيين.
ضخ الغاز مجاناً في الشبكة المحلية
بعد تشكيكات واتهامات صريحة من المعارضة التركية في حقيقة اكتشافات الغاز في البحر الأسود والتي أعلنت عنها الحكومة خلال السنوات 2020-2022، أقدمت الحكومة على ضخ الغاز وللمرة الأولى في التاريخ في شبكة الاستهلاك المحلى، وبلغت احتياطيات الغاز الطبيعي المكتشفة في البحر الأسود 710 مليارات متر مكعب، وهي كميات تكفي استهلاك المنازل التركية طوال 35 عاماً كاملة، وذلك من خلال إنتاج 10 ملايين متر مكعب من الغاز يومياً من 10 آبار في المرحلة الأولى، و40 مليون متر مكعب يومياً من 40 بئراً في المرحلة الثانية.
وتنبع أهمية اكتشافات الغاز في تركيا من عدة أمور، أولها فشل حكومات المعارضة المتتابعة في الاكتشاف بل تأكيدها مع حلفائها الغربيين انعدام وجوده على الأراضي التركية، وثانيها أنه جاء بأيادٍ تركية خالصة وبسفن تنقيب مصنوعة محلياً، وبالتالي لا حصة للشركاء الأجانب، وثالثها تخفيض فاتورة واردات الطاقة التركية والتي تبلغ 40 مليار دولار سنوياً لا شك في أنها تؤثر سلباً بشدة على الميزان التجاري وبالتالي على استقرار العملة المحلية.
وابتهاجاً بذلك أعلن الرئيس التركي عن مجانية الغاز التركي المخصص للاستهلاك المنزلي لمدة شهر في عموم الجمهورية، وتكاملاً مع ذلك أكد أن بلاده دخلت نادي دول الطاقة النووية في العالم، عبر محطة أكويو في ولاية مرسين، عقب تزويد المحطة بأول وقود نووي، وستدخل المحطة الخدمة تباعاً حتى عام 2028، بقدرة تصل إلى 4800 ميغاوات وتوفر 10% من احتياجات تركيا من الكهرباء.
أردوغان يراهن على إنجازاته
يعول أردوغان وحزبه في الانتخابات الحالية على الإنجازات المشهودة التي قام بها خلال فترة حكمه، كما يعول على مجموعة واسعة ومتنوعة من المشروعات التي يقوم بافتتاحها يومياً خلال الفترة الأخيرة، وخلال الأربعين يوماً الأخيرة افتتح أكثر من 20 مشروعاً لا يتسع المجال لذكرها جميعاً، ومنها علي سبيل المثال في مجال الصناعات الدفاعية الصاروخ الذكي "بيرقدار كمانكش"، والتحليق الناجح للمروحية الهجومية التركية الثقيلة "أتاك 2"، بالإضافة إلى سفينة "تي سي جي أناضولو" أول حاملة طائرات هجومية في العالم، والتي أتاحت الحكومة للجماهير التركية زيارتها.
كما افتتح مركز إسطنبول المالي الذي بدأ تشييده عام 2013، وترى الإدارة التركية أنه سيعزز مكانة تركيا في الاقتصاد العالمي ويجعلها مركزاً مالياً إقليمياً وعالمياً في المستقبل، وافتتح كذلك مدينة طبية جديدة في ولاية قوجه إيلي شمال غربي البلاد، التى تبلغ سعتها 1218 سريراً، وذلك في إطار انتهاج الدولة بناء سلسلة من المدن الطبية مكنتها من شغل موقع مرموق بين أكبر البلدان جذباً للسياحة العلاجية حول العالم.
ومن اللافت كذلك أنه بعد تدشين السيارة التركية "توغ" منذ أسابيع قليلة بمكونات محلية تزيد عن 80% حرص أردوغان ووزراؤه على الترويج لها بأنفسهم ليس من خلال قيادتها فقط وإنما غسلها أيضاً، كما فعل وزير الصناعة التركي، بعد بدء بيعها في السوق المحلية واستعداداً لطرحها للتصدير بداية من عام 2025.
إنجازات أردوغان تتحدث عن نفسها ولا يعني ذلك إطلاقاً عدم وقوعه في أخطاء، أو أنّه لم يعد لديه ما يقدمه، فمن المؤكد أن الرئيس وحزبه قدّما تجربة غنية وعميقة على المستويين السياسي والاقتصادي، حلّقا من خلالها بالدولة التركية إلى نموذج تتطلع الكثير من الشعوب الكادحة إلى تحقيقه، ورغم المنافسة الشرسة في الانتخابات الحالية والتي هي من طبائع الدول الديمقراطية فإنّ الإنجازات من المؤكد أن تحدث الفارق الانتخابي.