سبتمبر/ أيلول ليس ككل الشهور بمنطقة آسني التي تقع بالأطلس الكبير على بعد حوالي خمسين كيلومتراً عن مدينة مراكش السياحية. تلك القرى تفرح بقطاف الجوز، الذي له في قلوب الساكنة مكانة خاصة. فقد نسج الناس معه علاقات ضاربة جذورها في التاريخ منذ أن كان أسلافهم. فحول شجرة الجوز تشكلت حياتهم وبه تمكنوا من الصمود أمام مِحن الزمن.
يحرص العامل بمدينة الدار البيضاء، محمد بن عدي (30 عاما)، على أن تكون عطلته السنوية في شهر سبتمبر، حيث يبدأ قطاف الجوز، الذي يعرف باسم "الكركاع" في المناطق العربية بالمغرب، بينما يطلق عليه "تقايين" في المناطق الأمازيغية. بن عدي يؤكد أن الأجواء التي تحيط بقطاف الجوز استثنائية، حيث يهب السكان جميعهم من أجل جني ثمار عام من العناية بشجرة الجوز التي يعلقون عليها الكثير من الآمال، كي يؤمنوا جزءاً من قوتهم.
لم تكن تلك القبائل في ما مضى من الزمن، تعتمد على مورد آخر غير الجوز. فقد ارتبطت حياتها بتلك الثمرة، التي يراقب أهل الأطلس الكبير نموها بالكثير من الاهتمام والخوف من أن تهاجمها الأمراض في مرحلة نموها وقت الشتاء والبرد القارس، حيث تعتبر أكثر حساسية لحالة الطقس، فيستحيل لون لبها إلى السواد عندما يصيبها البرد.
تخيب آمال الساكنة، فتبحث لها عن نشاط آخر، يأتي دائما من الجوز. فجذور شجرته الضاربة في أراضي تلك المناطق، يستغلها السكان من أجل إعداد السواك، الذي يكثر عليه الطلب من قبل النساء في المغرب للفوائد التجميلية والصحية. صحيح أن إدارة المياه والغابات، تتكفل بمحاربة استغلال جذور الشجر من أجل توفير السواك، لأن تلك العملية تفضي إلى التعجيل بتقليل الثمار التي تطرحها تلك الشجرة، إلا أن الرغبة في تأمين قوتهم تدفعهم للالتفاف على المنع.
لكن عندما تطرح الشجرة جوزا وفيرا، تنقلب حياة أهل تلك المناطق في المغرب، فيبدون سعداء، لأنهم يعلمون أنهم أمّنوا إيرادات تتيح لهم توفير قوتهم طوال السنة. هكذا يعملون قبل شهرين أو ثلاثة أشهر من قطاف الجوز، على تكليف حراس من القرية لحراسة تلك الأشجار، مخافة أن يعمد أحدهم إلى سرقة الجوز قبل اليوم المحدد لبدء القطاف.
ويرجح البعض أن يكون الفينيقيون أول من أدخل شجرة الجوز إلى شمال أفريقيا، مبررين ذلك بكون الأمازيغ استفادوا من خبرة الفينيقيين في مجال الزراعة، غير أنها اليوم أضحت جزءا راسخا في تاريخ المغرب، وخاصة في منطقة أسنى، حيث يُحتفى بها كثيرا من قبل الساكنة، رغم انفتاحها على زراعات أخرى تدر عليها إيرادات جد مهمة.
اقرأ أيضاً: ارتفاع الفقر في ريف المغرب يغذي الفوارق الاجتماعية
يجتمع كبار القرية بمسجدها، حيث يضعون ترتيبات قطاف الجوز. يبدأون من منطقة واحدة في القرية.. ويشرعون في القطاف وفق نظام دقيق، بحيث لا يجمع الشخص سوى الجوز الذي يسقط في حدود الشجرة المملوكة له.. العرف اقتضى ألا يتعدى أحد حدوده. هناك من يعتلي الشجر حاملا عصا طويلة كي يضرب برفق أغصان الشجرة، وعندما تسقط الثمار يتلقفها أشخاص في الأسفل، الذين يكونون من أفراد الأسرة الواحدة، رجالا ونساء.
يراقب المواطن أحمد أيت لحسن عملية القطاف حول أشجار عائلته. هو يؤكد أن الجوز كان السر في استمرارية القبيلة، حيث كان النشاط الاقتصادي الوحيد، فبالإضافة إلى زراعة الشعير والذرة التي تقلّصت مساحتها، يُعتنى بالجوز الذي يحصل أفراد القبيلة بفضل بيعه بمدينتي مراكش والدار البيضاء على بعض المال الذي يتيح لهم مواجهة بعض النفقات اليومية وشراء المواشي، الذي تعتبر تربيتها نشاطا مهما في تلك المنطقة الجبلية.
يجوب القبيلة وقت قطاف الجوز الكثير من التجار أو يعتمدون على وسطاء من أجل شراء تلك الثمرة التي يكثر الإقبال عليها في العديد من المناسبات في المغرب. الكثير من الأسر تضطر لبيع جزء مما تجمّع لها من جوز. فهي مضطرة لذلك، لأنها تعلم أن الشتاء على الأبواب، ولا بد لها من توفير ما تواجه به برده القارس.
إذا كانت أغلب الأسر تلجأ إلى بيع الجوز تحت ضغط الحاجة، بأسعار قد لا تكون في مستوى توقعاتها، إلا أن أخرى التي لديها سعة من الرزق تنتظر بحس تجاري تأتّى لها بفعل التجربة، الفترات التي يرتفع فيها الطلب. تخزنه، تنتظر إلى أن تهل مواسم عاشوراء أو المولد النبوي أو عيد الفطر، حيث لا يغيب الجوز عن موائد الأسر المغربية.
هذا ما يوضحه عبد الرحيم أيت عمر، الذي يفضّل حمل جوز العائلة إلى مدينة مراكش، حيث يوجد سوق تقدم فيه أسعار مجزية. يشير إلى أنه إذا كان الكيلوغرام من لب الجوز لا يتعدى 7 دولارات في وقت القطاف، فإنه يصل إلى 12 دولاراً في الأعياد.
اقرأ أيضاً: أطفال يعملون في صناعة الجلد بالمغرب.. تُجّار صِغار