"حتى والو هيتباع هنا". هكذا علق التاجر عبد الإله أشمرو، عندما سئل عمّا يعرضه أولئك الأشخاص على الأرض من سلع. هو يقصد، أنه حتى الأشياء التي لا تساوي شيئاً ولا يسأل عنها أحد تعرض في ذلك الفضاء، الذي ارتجله أشخاص سوقاً، فأضحى الناس يقبلون عليه.
البعض يأتي إلى هنا ظناً منه أنه قد يفوز بتحف نادرة لا يدرك قيمتها عارضها، آخرون تقودهم أقدامهم إلى هنا، فقط من أجل قضاء الوقت. فلا شيء يثير لديهم رغبة الشراء.
تبدو أغلب الأشياء المعروضة في ذلك الفضاء الذي يقود إلى سوق القريعة الشهير الواقع بحي درب السلطان بقلب الدار البيضاء غير ذات قيمة.. قنينات فارغة، مستحضرات تجميل تحوّل لون ورقها إلى الأصفر، أعداد قديمة من صحف أسبوعية، كتب قديمة ممزقة أغلبها، مفاتيح وأقفال صدئة، كراسٍ، سراويل وقمصان وجوارب تغيرت ألوانها من شدة الاستعمال، أحذية قديمة نالت منها الطرقات.
كل شيء معروض على الأرض المغبرة دون أي تنسيق، أصحاب تلك المعروضات لاهون عنها. لكن ما إن تقف كي تلقي نظرة على ما يعرضونه حتى يقترب أحدهم، كي يوحي بأنه صاحب المكان.
وعندما تسأل أشميرو الخبير بتفاصيل ذلك المكان عن مصدر تلك "السلع" المعروضة، يوضح لك، بأنها تأتي في غالب الأحيان من أشخاص يجوبون الشوارع والأحياء والأزقة مساء، حيث يبحثون عن أشياء تخلت عنها الأسر، وما زالت صالحة للاستعمال.
كل ما يعثرون عليه ينتهي في ذلك السوق هناك. يفرغون عرباتهم فوق الأرض، ولا يتجشمون عناء فرز ما احتوته. لا يحدّدون مسبقا ثمناً لها، بل يصرحون به للسائل حسب مزاجهم في أغلب الأحيان. باب المساومة مفتوح على مصراعيه هنا. غالبا ما يتفق الطرفان على ثمن كل واحد يبدو راضياً عنه.
يأتون من الأحياء الفقيرة والهامشية، يطلبون رزقهم من تلك السلع التي يعثرون عليها بين الأشياء التي تخلى عنها الآخرون. هذا المكان ليس حكرا على الرجال، فقد ارتادته النساء منذ سنوات. نساء من مختلف الأعمار، زوجات وأرامل ومطلقات، يأتين إلى هناك، حيث يعرضن أواني وملابس وأحذية.
اقرأ أيضاً: الأزقة الضيقة..ملجأ باعة المغرب الجائلين سعياً وراء الرزق
لكن أغلبهن لا يهرعن إلى المكان من أجل البيع والشراء فقط، بل إن منهن من يهربن من رتابة أيامهن في منازلهن، ويستغللن الفرصة كي يخضن في أحاديث تتناول شؤون الحياة والناس، إلى أن يهل سائل عن بضاعتهن.
ليلى السريفي، أربعينية، أم لثلاث بنات، تتحدث عن حكايتها مع ذلك الفضاء. فقد كانت تتردد عليه من أجل شراء، بعض الأشياء بأبخس الأثمان، وسرعان ما توطدت علاقتها ببعض النسوة البائعات، اللواتي أقنعنها بالانضمام إليهن، لعلمهن بأن زوجها، الذي يعمل حارس سيارات لا يستطيع تلبية حاجيات الأسرة. اشترت ملابس مستعملة من أحد أسواق الملابس المستعملة، والتحقت بأولئك النسوة اللواتي أفسحن لها مكانا بينهن في ذلك المكان، كي تعرض الملابس. مقامها هناك تجاوز العشرة أعوام، لم تتخلف يوما عن السوق، فقد أضحي لها فيه رزق يغنيها عن السؤال مهما كان قليلا كما تقول.
جمال بوزايد، الخمسيني، الحاصل على شهادة عليا في الآداب، يبرر تردده الدائم على ذلك السوق، بالرغبة في العثور على أشياء نادرة لا ينتبه إليها الآخرون. هو يؤكد أنه تمكن من شراء أسطوانات موسيقية نادرة من هذا المكان.
وهناك عثر على كتب قديمة قيمة بين ركام الملابس والأحذية المستعملة، بل إنه يؤكد أن من الباعة من خبروا ميولاته جيدا وأضحوا يحتفظون له بأسطوانات وكتب، يشتريها منهم.
بوزايد يرى أن ارتجال هؤلاء الناس الآتين من الأحياء الفقيرة والهامشية لذلك السوق، لا يلبي فقط الرغبة في تأمين رزقهم، بل إن بعضهم يبحثون عن مكان يقضون فيه جزءاً من يومهم، يبيعون ويشترون، وينسون قساوة حياتهم، التي تضطرهم، لبيع كل شيء ولا شيء. إنهم يشغلون أنفسهم ويؤمنون رزقا يقيهم السؤال.
أشمرو، يرى أن هؤلاء الناس يخلقون لأنفسهم نشاطاً تجارياً مضطرين، فهؤلاء "التجار" كما يصفهم، يريدون الفوز بنصيبهم مما تجود به، العاصمة الاقتصادية، مدينة الدار البيضاء. ويغادر كل واحد منه بنحو 5 أو 10 دولارات في انتظار يوم آخر يعاودون فيه عملهم مرة أخرى.
وتساهم أسواق السلع المستعملة في حل مشكلة البطالة البالغة نسبتها في الربع الأول من السنة الحالية 9.9%، حسب المندوبية السامية للتخطيط الحكومية.
اقرأ أيضاً: زحف المستورد يقلص حصة الملابس المغربية