الحكاية بدأت في أبريل/ نيسان 2014 بـ240 مليار جنيه مصري وانتهت في يناير/ كانون الثاني 2016 بـ200 مليار جنيه، وما بين هذين التاريخين ومئات المليارات التي يتم الإعلان عنها يعيش المواطن المصري معاناة يومية شديدة مع الأسعار وارتفاع التضخم، مع ثبات الدخل وتضاؤل فرص العمل وزيادة معدلات الفقر والبطالة وإغلاق نحو 5 آلاف مصنع.
في البداية وقبل نحو 21 شهراً، تم الإعلان عن إطلاق أضخم مشروع عقاري في مصر، بل وفي منطقة الشرق الأوسط، وهو مشروع إقامة مليون وحدة سكنية للفقراء والشباب بالتعاون مع شركة أرابتيك الإماراتية بكلفة 240 مليار جنيه (ما يعادل 40 مليار دولار في ذلك الوقت)، ومات المشروع بالسكتة الدماغية بعد أن حقق الهدف من إعلانه وهو حصد أصوات ملايين المصريين في الانتخابات الرئاسية، وبعدها تم الإعلان عن أضخم مشروع قومي وهو حفر "قناة سويس جديدة" بكلفة 64 مليار جنيه تم جمعها من مدخرات المصريين.
وفى مارس/ آذار 2015 تم الإعلان في نهاية مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي، عن نجاح مصر في جذب استثمارات عربية وأجنبية بقيمة 182 مليار دولار. وخلال المؤتمر فوجئنا بالإعلان عن مشروع إقامة العاصمة الإدارية الجديدة لمصر بكلفة 90 مليار دولار منها 45 مليار دولار للمرحلة الأولى، كما تم الاعلان عن مشروعات أخرى، منها إقامة أضخم برج سكني في مصر وغيرها.
وأخيراً، وتحديداً يوم السبت الماضي، تم الإعلان عن إطلاق مشروع دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة بـ200 مليار جنيه (25 مليار دولار)، وذلك قبيل احتفالات الذكرى الخامسة للثورة المصرية.
اقرأ أيضاً: الأسعار ترتفع في مصر خلال 2015 رغم وعود السيسي
وبعد أن كنا قبل نحو عامين ونصف نتحدث عن معالجة أزمة البطالة عبر إطلاق مشروع عربة خضار وتسريح الشباب المصري عليها، قفزنا مرة واحدة إلى عالم المليارات، حيث تم الإعلان عن تخصيص 200 مليار جنيه لدعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة.
وبالإعلان عن المشروع الأخير، يتم تكرار ما حدث مع المشروعات القومية الكبرى التي تم الإعلان عنها وسط زفّة إعلامية ولم ينفذ معظمها، وما تم تنفيذه تراجعت إيراداته، والدليل على ذلك ما حدث مع مشروع توسعة قناة السويس الذي تم جمع 64 مليار جنيه لتمويله بسعر فائدة عالٍ ومكلف للدولة، ورغم ذلك تراجعت إيرادات القناة على مدى الأشهر الأربعة الماضية.
مشروع دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة (المشروعات النونو)، سينضم لإخوته من المشروعات "العملاقة" السابق الإعلان عنها لأسباب عدة، منها أن القطاع المصرفي لا تتوافر لديه 200 مليار جنيه سيولة فائضة لتخصيصها لهذه النوعية من المشروعات، وحتى لو توافرت لدى البنوك سيولة تعادل نصف هذا المبلغ أو أقل منها، فإنها تفضّل الاستثمارات السهلة والمضمونة والآمنة لأسباب عدة منها زيادة مخاطر السوق والاقتصاد، والعمل على تفادي التعرض لخسائر أو تراجع في الأرباح المحققة.
وأقصد هنا بالاستثمار السهل والمضمون للبنوك توجيه أموالها للاكتتاب في أدوات الدين الحكومية، مثل أذون الخزانة والسندات، أو أدوات البنك المركزي التي يطرحها من حين لآخر لامتصاص السيولة الفائضة من القطاع المصرفي مثل الكوريدور والودائع.
كما تشير تجربة البنوك المصرية التاريخية إلى أن القطاع المصرفي لا يفضّل هذه النوعية من المشروعات الصغيرة والمتوسطة لأسباب عدة، منها عدم توافر الكوادر البشرية المطلوبة لمتابعة هذا الكم الهائل من الشباب الحاصلين على قروض، وزيادة نسبة تعثر هذا النوع من التمويل لضعف المتابعة، إضافة لزيادة مخاطر هذه المشروعات وكثرة مشاكلها. ورغم المزايا التي منحها البنك المركزي لتمويل المشروعات الصغيرة، إلا أن البنوك لا تزال مترددة في التعامل معها لأنها تدير أموال مودعين يجب الحفاظ عليها.
اقرأ أيضاً: حكومة مصر تواصل مسلسل المليارات الوهمية
ولذا، استغربت الحديث عن منح قروض للشباب لإنشاء مشروعات متناهية الصغر بسعر فائدة لا يزيد عن 5% سنويا، بل وسعر فائدة متناقصة، فإذا كانت كلفة الأموال داخل البنوك لا تقل عن 10% سنوياً، بل وقد تزيد عن هذا الرقم، فهل ستمنح البنوك أموالها بالخسارة؟ وهل ستمنح البنوك عملاءها المودعين سعر فائدة 10% سنويا وربما 12.5% مقابل أموالهم وتمنح المقترضين الشباب قروضا بسعر فائدة يعادل نصف هذه النسبة؟
لا تقحموا البنوك المصرية في لعبة السياسة، فالبنوك تدير 1800 مليار جنيه من أموال المودعين، وإذا كنا نريد الحفاظ على هذه المليارات للاستفادة منها في مشروعات تنمية حقيقية تفيد الاقتصاد القومي، فلا بد أن تتم إدارة هذه الأموال طبقا لأسس استثمارية ومالية بحتة لا قرارات سياسية بتخصيص 200 مليار جنيه من أموالها للمشروعات الصغيرة والمتوسطة.
كفى ما عانته البنوك المصرية من تعثر شديد في تسعينيات القرن الماضي حينما فتحت خزائنها لرجال أعمال مقربين من السلطة الحاكمة يغترفون منها ما يشاؤون من المليارات التي جرى تهريب جزء منها للخارج، والنتيجة ضياع مليارات الجنيهات على الدولة، أكبر مساهم في القطاع المصرفي، وعلى المستثمرين المساهمين في هذه البنوك، والأهم على الاقتصاد القومي الذي حُرم من هذه الأموال في تمويل مشروعات كبرى يحتاجها المجتمع.
اقرأ أيضاً:
عزيزي مؤيد السيسي
مصر: أسعار السلع تحرج السيسي
الاقتصاد المصري ينمو 4.2% في عام