أثارت إيرادات قناة السويس منذ الانقلاب العسكري في 3 يوليو 2013 وحتى الآن جدلا واسعا في الشارع السياسي والوسط الاقتصادي، وتحولت حصيلة إيرادات القناة "المتذبذبة" كأحد المصادر الرئيسية للنقد الأجنبي في الاقتصاد المصري إلى أداة لأغراض سياسية، لمؤيدي الانقلاب العسكري تارة وللرافضين للانقلاب تارة أخرى.
واتسعت مساحة الجدل السياسي والاقتصادي في الشارع المصري، مع الإعلان في أغسطس 2014 عن إطلاق تفريعة جديدة للقناة بطول 34 كيلومترا لتقليص الفترة الزمنية لعبور السفن من 18 إلى 11 ساعة، واستيعاب السفن ذات الحمولات الكبيرة عن طريق تعميق وتوسيع نحو 35 كيلو مترا من القناة الأصلية، وتمت تسمية هذا المشروع إعلاميا ورسميا "قناة السويس الجديدة".
وقال الموقع الرسمي لهيئة قناة السويس إن الحكومة تستهدف من هذا المشروع مضاعفة إيرادات القناة السنوية من 5.3 مليارات دولار حاليا إلى 13.3 مليار دولار بحلول عام 2023، أي زيادة عائد قناة السويس بنسبة 259% عام 2023، إلا أن مؤسسة موديز العالمية للتصنيف الائتماني، قالت في تقرير لها نشر في 13 أغسطس 2015 إن هذه المستهدفات تقوم على افتراضات بتعاف حاد في نمو التجارة العالمية ومضاعفة عدد السفن العابرة للقناة إلى 97 سفينة يوميا، مؤكدة أنه أمر غير مرجح الحدوث.
وبحسب تقرير موديز، فإن تحقيق الزيادة المستهدفة من توسعات القناة يتطلب نمو التجارة العالمية 10% كل سنة في الفترة بين 2016 إلى 2023.
ويرصد "العربي الجديد" بالأرقام، مؤشرات إيرادات قناة السويس خلال السنوات الثلاث الماضية، ومدى انعكاس مشروع التفريعة الجديدة الذي تم افتتاحه في بداية أغسطس 2015، على إيرادات القناة بصفة خاصة والاقتصاد المصري بصفة عامة.
أرقام رسمية
تشير الأرقام والبيانات الرسمية للحكومة المصرية إلى أن إيرادات قناة السويس خلال العام المالي الأول بعد الانقلاب العسكري ( 2013/ 2014 ) بلغت 5.369 مليارات دولار، أي ما يعادل 6.7 % من إجمالي موارد النقد الأجنبي لمصر، التي بلغت ما يقرب من 80 مليار دولار خلال نفس العام، في حين بلغ المتوسط اليومي لعدد السفن المارة بالقناة في هذا العام ( 2013 / 2014 ) 47 سفينة وهو نفس معدل المرور في عام 2009 وأقل من معدل المرور في 2008 البالغ 59 سفينة في اليوم.
وكشفت وزارة المالية المصرية، في تقرير الأداء الاقتصادي والمالي خلال النصف الأول من العام المالي ( 2013 / 2014 ) أي بعد 6 أشهر من وقوع الانقلاب العسكري، انخفاض حصيلة الإيرادات من قناة السويس المحولة للخزانة العامة بنسبة 15.5 % لتبلغ 12.8 مليار جنيه مقابل 15.1 مليار جنيه في نفس الفترة من العام السابق عليه.
وخلال العام المالي ( 2014 / 2015 ) انخفضت إيرادات قناة السويس – وفقا لبيان صادر عن البنك المركزي المصري- بشكل طفيف لتبلغ 5.362 مليارات دولار، مقابل 5.369 مليارات دولار في العام المالي السابق عليه، أي بانخفاض قدره 7 ملايين دولار.
وفي خطوة غير مسبوقة، أثارت اضطرابا في الأوساط الاقتصادية، خاصة بعد افتتاح مشروع تفريعة قناة السويس، فرضت الحكومة المصرية خلال الربع الأول من العام المالي (2015 / 2016 ) حالة من التعتيم الإعلامي حول تقارير الملاحة والإحصائيات الرسمية الخاصة بمعدلات الإيرادات الشهرية وأعداد وحمولات السفن المارة، وحجبت نشر البيانات الخاصة بإيرادات القناة عن أشهر يوليو وأغسطس وسبتمبر من العام 2015.
وفي 6 أغسطس 2015، افتتحت مصر مشروع تفريعة قناة السويس الذي تكلف نحو ثمانية مليارات دولار، وذلك بعد عام واحد من بدء العمل في المشروع بدلا من ثلاثة أعوام كما كان مقررا له بناء على توجيهات عبد الفتاح السيسي قال خلالها إنه مجرد حفر على الناشف، ولا يحتاج سوى سنة واحدة، مما ورط هيئة قناة السويس في الاستعانة بنسبة عالية من كراكات العالم للوفاء بالموعد، خاصة وأن إمكانيات الهيئة الذاتية محدودة، وتم جمع 64 مليار جنيه من المواطنين لتمويل المشروع من خلال شهادات استثمار بفائدة سنوية 12%.
واكتفت الحكومة المصرية خلال الأشهر الثلاثة التالية لافتتاح التفريعة، بتصريحات طمأنة، لرئيس هيئة قناة السويس، الفريق مهاب مميش، حول إيجابية الوضع وارتفاع معدلات أعداد السفن والحمولات بعد افتتاح التفريعة الجديدة لقناة السويس، دون ذكر أي بيانات تفصيلية.
"فنكوش" التفريعة
بعد 80 يوما من افتتاح التفريعة الجديدة، أصدرت هيئة قناة السويس في 26 أكتوبر 2015 بيانا، كسر حاجز التعتيم الحكومي على إيرادات القناة، وكشف انخفاض إيرادات القناة بنحو 13.3 مليون دولار خلال شهر سبتمبر فقط، حيث بلغت 448.8 مليون دولار في سبتمبر مقابل 462.1 مليون دولار في أغسطس، وأظهر البيان أن عدد السفن المارة في سبتمبر انخفض إلى 1515 سفينة مقابل 1585 سفينة في الشهر السابق.
وسجل شهر أكتوبر 2015 ارتفاعا طفيفا عن شهر سبتمبر من نفس العام بمقدار بنحو 400 ألف دولار فقط، رغم تراجع عدد السفن المارة في القناة خلال شهر أكتوبر من 1500 سفينة إلى 1515 سفينة في سبتمبر من نفس العام، وبلغت إيرادات القناة في هذا الشهر بحسب بيانات هيئة قناة السويس 449.2 مليون دولار.
وهبطت إيرادات القناة في شهر نوفمبر 2015 لأدنى مستوى لها خلال التسعة أشهر السابقة من نفس العام، وفقدت الإيرادات 40.8 مليون دولار في شهر واحد، حيث بلغت الإيرادات في هذا الشهر 408.4 ملايين دولار مقابل 449.2 مليون دولار في أكتوبر، وتراجع عدد السفن المارة إلى 1401 سفينة مقابل 1500 سفينة في أكتوبر.
وفي تقريرها السنوي، أعلنت هيئة قناة السويس، انخفاض إيرادات القناة خلال عام 2015 نحو 290 مليون دولار، بنسبة انخفاض بلغت 5.3% مقارنة بعام 2014 ، وقالت الهيئة إن إيرادات القناة خلال عام 2015 بلغت نحو 5.175 مليار دولار مقابل 5.465 مليار دولار في عام 2014.
وأثبت تراجع إيرادات قناة السويس خاصة في الشهور التالية لافتتاح تفريعة، أن إيرادات القناة مرهونة بحركة التجارة العالمية التي تعاني من ركود ومعدلات نمو بطيئة، وأن التفريعة لم تكن مؤثرة بالمرة فى زيادة الإيرادات.
أزمات طاحنة
وفي ظل التراجع في إيرادات قناة السويس، وتزايد الأزمات التي تواجها القناة، صدر تقرير لمؤسسة سيلنتل المتخصصة في تحليلات الملاحة البحرية، قال إن انخفاض أسعار النفط سيسمح لسفن الشحن بتجنب الرسوم الجمركية المكلفة لقناتي السويس وبنما، وذلك باتخاذ الطريق الأطول حول أفريقيا بدلا من العبور من القناتين.
وذكر التقرير، الصادر في فبراير 2016، ونقله موقع محطة سي إن بي سي العربية، أن 115 سفينة تنقل بضائع من آسيا إلى شمال أوروبا والساحل الشرقي الأميركي أبحرت حول جنوب أفريقيا خلال رحلة عودتها بدلا من استخدام قناة السويس.
وقالت مؤسسة سيلنتل في تقريرها إن الناقلات تعد ذات قيمة كبيرة بالنسبة لقناة السويس، مضيفة أن سفن الحاويات التي تبحر من آسيا إلى الساحل الشرقي تدفع 465 ألف دولار للعبور عبر القناة.
وأضاف التقرير "أن قناة السويس تحتاج إلى خفض أسعار العبور بنسبة 50% تقريبًا إذا رغبت تغيير اقتصاد اختيارات المسارات".
وقالت صحيفة تشاينا ديلي الصينية الحكومية، في 20 إبريل 2016، إن حكومة بكين ستحث شركات الملاحة الصينية على استخدام الممر المائي حول أقصى شمال روسيا لتقليل الزمن الذي تستغرقه الرحلات البحرية بين المحيطين الأطلسي والهادي.
وأوضحت الصحيفة – بحسب وكالة رويترز - أن المسار الملاحي عبر القطب الشمالي، تم فتحه نتيجة ذوبان الجليد بسبب ظاهرة التغير المناخي، وأن هذا المسار المائي يوفر مئات الآلاف من الدولارات من الرسوم التي تدفعها شركات الشحن للعبور في قناة السويس التي تعتبر الممر المائي التقليدي للسفن لنقل البضائع من شرق وجنوب آسيا إلى أوروبا.
وبحسب مقال على الموقع الإلكتروني لخدمة "التر نت" كانت شركات الشحن العملاقة مثل "بيلوجا" و"نورديك بلك كاريير" تضطر عادة للمرور عبر قناة السويس أو مسارات أطول لتوصيل البضائع.
كذب الأرقام الرسمية
ورغم ما سبق ذكره من بيانات رسمية، تظهر بالأرقام، تراجع إيرادات القناة خلال العام الماضي، وكذلك في الشهور الأولي من العام الجاري، أصر عبدالفتاح السيسي على أن دخل قناة السويس قد زاد ولم ينقص، وقال خلال كلمته بمنطقة الفرافرة في مايو الماضي "سمعت ناس بتقول إن إيرادات قناة السويس قلت ( تراجعت)..لأ طبعا..إنما زادت..وأنا لما بقول كده ده كلام مسؤول"، دون أن يعلن السيسي قيمة إيرادات قناة السويس أو نسبة الزيادة التي تحققت.
وللتغطية على تصريحات السيسي التي تكذبها البيانات الرسمية لهيئة قناة السويس، لجأت الهيئة للمرة الأولى من نوعها في تاريخ القناة إلى الإعلان عن إيراداتها بالجنيه المصري، في سابقة وصفها الخبراء بـ " التهريج"، خاصة بعد أن دأبت القناة على احتساب إيراداتها بالدولار، وهي العملة التي اعتاد البنك المركزي المصري إعلان إيرادات كل موارد النقد الأجنبي ومن بينها قناة السويس بها منذ سنوات طويلة.
وأفادت وكالة "رويترز" أن هيئة قناة السويس لم تنشر الإيرادات بالدولار على موقعها منذ فبراير الماضي، مما يصعب إجراء مقارنات شهرية بعدما خفض البنك المركزي المصري قيمة الجنيه في مارس الماضي.
وقالت هيئة قناة السويس، في آخر بيان أصدرته عن إيرادات القناة ( حتى كتابة سطور هذا التقرير)، أن إيرادات شهر مارس الماضي بالعملة المحلية بلغت 3.477 مليارات جنيه، بزيادة بلغت 9.5% قياسا بأرقام فبراير الماضي البالغة نحو 3.108 مليارات جنيه.
ووفقا لحسابات "العربي الجديد" فإن الإيرادات المحققة في مارس الماضي تعادل نحو 392.8 مليون دولار إذا ما تم احتسابه بسعر الصرف الرسمي حاليا البالغ 8.85 جنيهات، بينما المحقق في نفس الشهر من عام 2015 نحو 420.1 مليون دولار، أي أن هناك تراجعا في الإيرادات بنسبة 6.9%، وليس زيادة كما يظهر بيان الهيئة.
توقعات غير متفائلة
وقال الخبير الاقتصادي، ممدوح الولي، إن تراجع إيرادات القناة، خاصة بعد افتتاح التفريعة الجديدة، يؤكد ما ذكره بعض المتخصصين فى الملاحة وهو أن توسعة قناة السويس عام 2015 لم تكن لها ضرورة آنية، وما قالته وكالة بلومبرج الاقتصادية المتخصصة، أن توسعة قناة السويس لا يحتاجها العالم فى الوقت الحالي ولعدة سنوات قادمة فى ظل توقعات غير متفائلة للتجارة العالمية من قبل مؤسسات دولية.
وأضاف الولي أن قناة السويس قبل تنفيذ التفريعة السابعة لها فى عام 2015، كانت تستطيع استيعاب 78 سفينة يوميا، بينما لم يتجاوز المتوسط اليومي لعدد السفن العابرة لها، خلال السنوات الخمس الأخيرة ما بين 2011 و2015 نحو 49 سفينة، بما يشير إلى وجود متسع لاستيعاب المزيد من السفن، فى وقت تتجه فيه شركات الملاحة الدولية لإنشاء سفن أكبر حجما تستوعب قدرا أكبر من البضائع، بما يقلل من عدد السفن البحرية.
وتوقع الولي استمرار نفس معدلات إيرادات قناة السويس خلال عامي 2016 و2017، بل وخلال عام 2018، خاصة فى حالة استمرار تراجع سعر اليورو، أحد المكونات الرئيسية لوحدة حقوق السحب الخاصة، التي يتم احتساب رسوم عبور السفن للقناة بواسطتها، وكذلك في حالة استمرار الاتجاه الصيني لخفض سعر صرف عملتها، وهي العملة التي ستدخل ضمن مكونات وحدة حقوق السحب الخاصة في أكتوبر 2016.
وأشار الولي إلى أن استمرار التوترات الإقليمية في بلدان مثل اليمن وليبيا والعراق وسورية ولبنان، واستمرار حالة عدم الاستقرار الاقتصادي في روسيا وأوكرانيا، من شأنها التأثير سلبيا على إيرادات القناة، إلى جانب مدى اتخاذ خطوات عملية من قبل روسيا والصين واليابان، لزيادة استخدام طريق المحيط المتجمد الشمالي، وطريق الحرير البري عبر وسط آسيا، الذي تسعى الصين لتحقيقه.
وأوضح الولي أن ظهور التكتلات الاقتصادية، مثل منطقة التجارة الحرة بين دول المحيط الهادي، والاتجاه لإنشاء منطقة تجارة حرة تجمع دول الأطلسي، مما يزيد من التجارة البينية بين تلك الدول، بعيدا عن طرق التجارة التي تمر بقناة السويس، سيكون له نفس الأثر السلبي على القناة.