أحيت زيارة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند إلى العاصمة العراقية بغداد، المنافسة مع دول غربية حول كعكة إعادة إعمار العراق ولا سيما بعد تكبّد تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" خسائر فادحة أجبرته على التراجع بجميع الجبهات.
وفي سبتمبر/ أيلول 2014، وبينما كان تنظيم "داعش" على أبواب مدينتي بغداد وأربيل، كان هولاند، أول رئيس غربي يزور العاصمة العراقية والإقليم الكردي بعد وقت قصير من بداية تدخّل التحالف الدولي ضد التنظيم.
وأمس الأول الإثنين، أي بعد أكثر من عامين، حطّ هولاند من جديد في بغداد، في مشهد شبيه بسابقه، لكن مع فارق محوري، وهو أن زيارته هذه تأتي في وقت تكبّد فيه التنظيم الإرهابي خسائر فادحة أجبرته على التراجع على جميع الجبهات، وتطوّق فيه القوات العراقية والكردية، بإسناد جوي من التحالف الدولي، مدينة الموصل (مركز محافظة نينوى)، كبرى مدن الشمال، ضمن عملية بدأت في 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
آنذاك (عام 2014)، وفي بغداد، التقى هولاند، الرئيس العراقي فؤاد معصوم، ورئيس وزرائه حيدر العبادي، ليعرب عن دعم فرنسا للحكومة العراقية الجديدة، قبل أن يعلن أنه سيلتقي بعد 3 أيام من ذلك، في العاصمة باريس، نظيره العراقي، خلال مؤتمر مشترك حول "السلام والأمن" لإعادة إعمار العراق.
على تلال نينوى
هولاند، الذي كان يخشى أن يغادر قصر "الإليزيه" دون أن يحصل على فرصة زيارة الموصل، تمكّن على ما يبدو من تحقيق خطوة يعتبرها مقياسا لنجاحه، وفق مراقبين، حيث تمكّن من زيارة مركز متقدّم على سلسلة من التلال المطلّة على سهل نينوى، على بعد نحو 20 كلم من الموصل (405 كلم شمال بغداد).
زيارة يعتقد مراقبون أنها تمهّد لمرحلة ما بعد التحرير، أي تأمين أكبر قدر من الاستفادة من صفقات الإعمار، لاسيما وأن تحرير الموصل بات أمراً واقعاً، ولن يستغرق من الآن إلا "أسابيع" فقط، وليس سنوات"، حسب الرئيس الفرنسي، فيما تحدث العبادي عن "3 أشهر وربما أقل".
ومع أن زيارة هولاند تهدف في ظاهرها، قبل كل شيء، إلى تأكيد دعم باريس للسلطات العراقية، سواء للرئيس الكردي فؤاد معصوم، أو رئيس وزرائه الشيعي حيدر العبادي، وأيضا لرئيس البرلمان السني سليم الجبوري، أو من خلال لقائه في أربيل رئيس الإقليم الكردي مسعود برزاني، غير أن بعض الخبراء يرون أن للزيارة أهدافا أعمق وأكبر.
أهداف اختزلتها تصريحات هولاند، خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع العبادي في بغداد، حيث أكّد على أهمية إعادة إعمار المناطق المحررة من داعش، وتوفير الدعم الدولي بهذا الشأن، إضافة إلى ضرورة تحقيق المصالحة الوطنية في العراق.
هولاند كشف في سياق متصل أن باريس ستشارك بكامل طاقتها في عملية إعادة إعمار الموصل، عقب تحريرها من "داعش"، مشددا على أن "فرنسا مستعدة لتنظيم مؤتمر دولي جديد لتمويل والإسهام في عملية إعادة إعمار الموصل والمناطق المحررة".
عراق 2003
عملية إعادة الإعمار هي "الكعكة" التي تترصّدها أعين الغرب بنَهمٍ، كلما شارفت عملياته العسكرية في بلد ما على النهاية، وباتت من نقاط الارتكاز في جميع العمليات العسكرية الغربية، سواء في العراق سابقا وحاليا، أو في أفغانستان، أو حتى في ليبيا، بل أضحت النقطة المرجعية التي تتقاطع عندها مصالح القوى الغربية.
في الموصل، أو المدن العراقية المحررة من التنظيم المتشدد، يعتبر خبراء أن المشهد لن يتغيّر في تفاصيله كثيرا عن الأمس، أو عما حدث في العراق بعد عام 2003، أو في أفغانستان بعد عام 2001، وغيره.
ولئن اختلفت الجزئيات، إلا أن العنوان العريض يظل واحدا بالنسبة للقوى الغربية المرابضة على مشارف ركام المباني في المدن المحررة من "داعش"، وهو كيف تحصل على النصيب الأكبر من كعكة إعادة الإعمار؟
في الواقع، فإن عملية إعادة الإعمار تستبطن بالنسبة للقوى الغربية جميع ما تحمله من خلفيات ذات صلة بالنفط والثروات الموجودة في المدن المستهدفة بإعادة البناء، علاوة على ما تشكله من مجال للحصول على أسواق جديدة للسلاح وغيره.
فالملاحظ دائما أن هذه العبارة غالبا ما تقفز إلى الواجهة، وبإطناب قد يكون مبالغا فيه في كثير من الأحيان، حين يتعلق الأمر بالبلدان النفطية، وليس أدل على ذلك من مثال ليبيا والعراق، إذ كلما سادت الفوضى أو انقشعت، سارعت البلدان الغربية إلى الإعلان عن استعدادها للمشاركة في إعادة بناء غالبا ما تطبّق فيها الإستراتيجيات الفاشلة نفسها، بحسب مراقبين.
صفقات الدمار
المحلل الإستراتيجي والدبلوماسي التونسي السابق، عبد الله العبيدي، قال إن "فرنسا التي تواجه واحدة من أسوأ سنواتها اقتصاديا، تسعى جاهدة للتموقع على الخارطة الدولية، ونيل حصتها من صفقات إعادة الإعمار".
العبيدي أوضح في حديث للأناضول أن "المعركة محتدمة بين القوى الغربية لتأمين نصيبها من كعكة إعادة إعمار المدن العراقية المدمرة، والعراق باعتبار موقعه الاستراتيجي ضمن منطقة تعتبر خزان الموارد المنجمية، يشكّل محطّ أنظار القوى الغربية".
وتابع: "تراجع احتياطيات تلك القوى (الغربية) من المواد الأولية، إلى جانب تراجع مؤشراتها الاقتصادية بفعل تأثرها بتداعيات الأزمة المالية العالمية (2008)، وتأثير الإرهاب، يدفع بالبلدان الأوروبية والولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا إلى البحث عن أسواق بديلة في البلدان المدمرة كليا أو جزئيا".
الخبير التونسي استشهد بالوضع في ليبيا، قائلاً إن "القوى الغربية تسعى إلى وضع حكومات موالية لها، لتضمن حصولها على صفقات إعادة البناء، وتجتثّ مسبقا - تبعا لذلك- أي رفض محتمل لشعوب الدول المستهدفة".
ما يحدث، بحسب العبيدي، هو"سباق محموم يصنع خارطة تحالفات جديدة، تتنافس من خلالها الدول الغربية على الصفقات المنتظرة في مرحلة ما بعد داعش في العراق".
وفي 19 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أعربت بلجيكا على لسان وزير خارجيتها ديدييه ريندرز، عن استعدادها للمشاركة في إعادة إعمار العراق، وخصوصا المناطق المحررة من "داعش".
وعقب لقائه حينها بنظيره العراقي إبراهيم الجعفري، في العاصمة بروكسل، قال ريندرز، في تصريحات لوسائل الإعلام: "نحن بالفعل نشطون في هذا المجال (مساعدة العراق)، من خلال الأعمال الثنائية، ولكن أيضا متعددة الأطراف، عن طريق الاتحاد الأوروبي وصناديق الأمم المتحدة".
خسائر إعادة الإعمار
إعادة الإعمار غالبا لا تسفر عن أية نتائج تذكر. ومع أن الأسباب المقدمة عادة ما تكون واهية، أو موشّحة بحجج لا أساس لها، إلا أن الواقع على الأرض يشهد بخلاف الصورة البراقة التي تسوّقها البلدان الغربية في البداية.
تقرير حكومي أميركي، حصلت عليه صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، كشف أن جهود واشنطن لإعادة إعمار العراق بعد غزوه عام 2003 تكللت بخسارة ثقيلة بلغت نحو 100 مليار دولار.
الصحيفة أضافت، استناداً إلى التقرير الذي يعرض تاريخ المساعدات الأميركية لبغداد، تحت عنوان "دروس صعبة.. تجربة إعادة إعمار العراق"، أنّ الجهود فشلت بسبب "المشاحنات البيروقراطية وجهل المجتمع العراقي".
فالواضح أنه حين بدأت ملامح الفشل تطغى على برنامج إعادة الإعمار، بدأت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) في تضخيم الأرقام لإخفاء فشلها، وفق الصحيفة.
التقرير نفسه أظهر أن الحكومة الأميركية لم تكن تمتلك لا السياسة ولا الآليات اللازمة لإقرار برنامج يعتبر من أهم خطط إعادة الإعمار بعد خطة "مارشال" التي أعقبت الحرب العالمية الثانية (1939- 1945).
وحسب الصحيفة ذاتها، بلغت كلفة إعادة إعمار العراق حتى منتصف 2008، 117 مليار دولار، 50 مليارا منها كانت حصة واشنطن، مضيفة أن جهود إعادة الإعمار لم تفض إلا إلى تكريس الدمار الذي شهده العراق أثناء غزوه ثم نهبه.
تقاليد غربية
تبعا لما تقدّم، خلص العبيدي إلى أن تصريحات هولاند حول استعداد باريس للمشاركة في إعادة إعمار الموصل لم تشذّ أبدا عن "التقاليد" الغربية في هذا السياق، وليبيا أفضل مثال على ذلك.
فبعد تدمير الكثير من المدن والمنشآت والبنى التحتية في العراق، تتنازع قوى دولية بارزة، على رأسها روسيا وفرنسا وبريطانيا، على الحصول على حصتها من صفقات إعادة الإعمار.
مطامع كان لابد من أن تخلق نقاط ثقل مضادة، جمعت كلا من فرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة في مواجهة روسيا، مع أنه حتى المحور الأول شابه الانقسام، فبحسب وسائل إعلام، طغت الخلافات الإيطالية - الفرنسية حول الملف الليبي على الاجتماعات التنسيقية الأوروبية.
(الأناضول)