مضى الآن على الأزمة الخليجية الحالية، التي انطلقت يوم الخامس من يونيو/حزيران من هذا العام 2017 أكثر من شهرين. وإذا استمرت الأمور على ما هي عليه، فإن الأزمة أمام خيارين: الأول أن تدخل في بيات طويل، من دون حدوث أي مؤثر كبير عليها، يغير من اتجاهها أو من وتيرتها وشدّتها. والثاني هو التوجه نحو التصعيد وسياسة "إما غالب أو مغلوب"، وتحدث الهزات المتتابعة التي لا تُحمد عقباها، ليس على اقتصاد الخليج فحسب، بل وعلى الوطن العربي كله.
وبالطبع، لاستمرار الأزمة وتصعيدها أبعادٌ دولية كذلك، فالعالم الذي يشهد تقلبات سريعة في أسعار صرف العملات، وفي أسعار النفط، والذهب، والبورصات، لن يبقى في منأى عن آثار تلك الازمة، خصوصا أن الحساسية الاقتصادية الدولية مرتفعة جداً.
وإذا تضافرت أزمة الخليج مع عدد كبير من القضايا المطروحة والمقلقة عالمياً، فإن أثرها سيكون أكبر بكثير من المتوقع. فعدا عن أزمة الخليج، فإن الاتحاد الأوروبي يعاني من تبعات التصويت البريطاني المؤيد للخروج من الاتحاد (البريكست)، خصوصاً أنه تبين حتى للمسؤولين البريطانيين حجم التعقيد الناجم عن فكفكة العلاقة مع باقي دول الاتحاد الأوروبي، بعد 47 عاماً من عضوية المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي.
وهنالك الأزمة المتزايدة في تقلبات الظرف السياسي الداخلي في الولايات المتحدة، بسبب الحملات المتتالية على رئيس الولايات المتحدة الحالي، دونالد ترامب، بهدف إجباره على الاستقالة، أو التصويت بعدم الثقة فيه. وفي المقابل، قد تخلق علاقات الولايات المتحدة مع روسيا وإيران وكوريا الشمالية خصوصاً، والصين وأوروبا بدرجة أقل، واقعاً صعباً جديداً، فالعقوبات الاقتصادية المفروضة بقانون على روسيا وإيران وكوريا الشمالية، والتهديد بانسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية البيئة المقرّة في مؤتمر باريس في نهاية عهد الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، واستمرار أكثر من 30 حرباً محلية وإقليمية في العالم. كل هذه التطورات لا تنبئ بأخبار ساره، بل وتلقي بظلالها الثقيلة على وضوح الرؤية الاقتصادية، وتعقّد من إمكانية التعامل معها.
وحتى نربط بين المتغيرين، وهما احتمالية استمرار الأزمة الخليجية وتصاعدها ولو ببطء من ناحية، واستجابة المتغيرات الاقتصادية العربية معها من ناحية أخرى، لا بد لنا أن نستذكر حقائق أساسية تعين على وضع الاحتمالات والنتائج في منظورها الصحيح.
الحقيقة الأولى أن اقتصادات دول الخليج التي كانت تشكل، من حيث الناتج المحلي الإجمالي، أكثر من 60% من الناتج الإجمالي لكل الدول العربية في فترات ارتفاع أسعار النفط فوق حاجز الـ 100 دولار للبرميل الواحد، قد تراجعت الآن إلى أقل من 50% بالدولار الدولي.
ووفق الإحصاءات المتاحة للعام 2016، فإنه لا يشكل أكثر من 47% من الناتج المحلي العربي الإجمالي. أما الناتج المحلي السعودي (618 بليون دولار دولي) فهو يساوي اقتصادات عشر دول عربية.
والحقيقة الثانية أن أكبر تسعة صناديق سيادية من أصل عشرة في منطقة الشرق الأوسط هي في دول الخليج الست. وتبلغ موجودات هذه الصناديق حوالي 2.6 تريليون دولار، ويستثمر أقلها في الوطن العربي وداخل دول الخليج، وأكثرها خارج الوطن العربي.
الحقيقة الثالثة أن عدد سكان الخليج يبلغ حوالي 51 مليون نسمة، بمن فيهم الأجانب المقيمون فيها، والذين يقدّرون بثلث مجموع السكان على الأقل، بينما يبلغ تعداد الوطن العربي المقدّر في نهاية عام 2016 حوالي 395 مليونا، أي أن ثمن سكان الوطن العربي يقطنون الخليج، ويحوزون نصف دخل الوطن العربي.
الحقيقة الرابعة أن معظم الدول العربية تعتمد في دخلها من العملات الأجنبية بين 20%-60% على تعاملاتها الاقتصادية مع دول الخليج، بما في ذلك الاستثمارات، والمساعدات بدون مقابل، والتبرّعات، والقروض الميسرة من صناديق التنمية الخليجية أو العربية المموّلة في معظمها من دول الخليج، ومن السياحة والنقل والخدمات الخليجية الأخرى. ولكن الأهم هو الحوالات من العاملين العرب في دول الخليج، والتي تشكل رصيداً مهما لبعض الدول العربية، مثل الأردن، ولبنان، وسورية، ومصر، وتونس، والمغرب، والسودان، وبالطبع اليمن.
والحقيقة الخامسة أن دول الخليج متداخلة في بعضها بعضاً، على الرغم من التنافس الكبير فيما بينها، والذي ازداد حدة بعد البدء بتنفيذ البرامج الساعية إلى تنويع اقتصادات الخليج بعيداً عن النفط والغاز. وسيكون لأي ترتيبات جديدة تخلّ بتلك العلاقة نتائج وخيمة على اقتصادات دول الخليج كلها.
لا نريد أن نقول إن إسرائيل هي الفائز الأكبر من احتمالات تفكّك مجلس التعاون، أو تراجعه أو تقلصه. ولكن الواضح أن هذه ستكون ضربة قاسية لكل الدول العربية، خصوصًا التي ترتبط اقتصاداتها بحكم الجوار، والتاريخ، والتحالفات السابقة وغيرها، مع دول الخليج برباط اقتصادي واجتماعي وسياسي واستراتيجي متين.
والخشية، كل الخشية، أنه إذا استمرت هذه الأزمة فترة طويلة، حتى لو بقيت على وتيرتها الحالية من دون تصعيد كبير، سوف تضع ضغوطاً متزايدة على الدول العربية الأخرى، لأخذ مواقف من هذا الفريق أو ذلك. وإذا استمر الحصار ضد دولة قطر، فإنها ستكون مضطرّة إلى الرد على المقاطعة، ما يعزز فرصة تذويب مجلس التعاون أو تقليصه.
وحيث إن دول مجلس التعاون تواجه تحديات متزايدة في الإقليم، وزيادة استهداف لها من الدول الثلاث غير العربية في المنطقة، ومن تراجع في مداخيلها وزيادة في ضرائبها، خصوصا على المقيمين فيها، أو الزائرين لها، فإن الوطن العربي سيضطر للبحث عن بدائل، حتى يتمكّن من تعويض مداخيله المتراجعة من دول الخليج.
لا نريد أن نذكّر أبناء الوطن العربي كله بما تفعله إسرائيل، وما تستغله من انشقاق الصف العربي، الكلي والإقليمي، لكي تنفذ مخططاتها في الأرض المحتلة، خصوصا في القدس.
المطلوب الآن تعقيل المواقف السياسية بالفهم الاقتصادي والواقع الاقتصادي. ولكن مطلوب أيضاً رصّ الصفوف لمواجهة المخاطر التي تحيط بنا من كل جانب.
اقــرأ أيضاً
وإذا تضافرت أزمة الخليج مع عدد كبير من القضايا المطروحة والمقلقة عالمياً، فإن أثرها سيكون أكبر بكثير من المتوقع. فعدا عن أزمة الخليج، فإن الاتحاد الأوروبي يعاني من تبعات التصويت البريطاني المؤيد للخروج من الاتحاد (البريكست)، خصوصاً أنه تبين حتى للمسؤولين البريطانيين حجم التعقيد الناجم عن فكفكة العلاقة مع باقي دول الاتحاد الأوروبي، بعد 47 عاماً من عضوية المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي.
وهنالك الأزمة المتزايدة في تقلبات الظرف السياسي الداخلي في الولايات المتحدة، بسبب الحملات المتتالية على رئيس الولايات المتحدة الحالي، دونالد ترامب، بهدف إجباره على الاستقالة، أو التصويت بعدم الثقة فيه. وفي المقابل، قد تخلق علاقات الولايات المتحدة مع روسيا وإيران وكوريا الشمالية خصوصاً، والصين وأوروبا بدرجة أقل، واقعاً صعباً جديداً، فالعقوبات الاقتصادية المفروضة بقانون على روسيا وإيران وكوريا الشمالية، والتهديد بانسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية البيئة المقرّة في مؤتمر باريس في نهاية عهد الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، واستمرار أكثر من 30 حرباً محلية وإقليمية في العالم. كل هذه التطورات لا تنبئ بأخبار ساره، بل وتلقي بظلالها الثقيلة على وضوح الرؤية الاقتصادية، وتعقّد من إمكانية التعامل معها.
وحتى نربط بين المتغيرين، وهما احتمالية استمرار الأزمة الخليجية وتصاعدها ولو ببطء من ناحية، واستجابة المتغيرات الاقتصادية العربية معها من ناحية أخرى، لا بد لنا أن نستذكر حقائق أساسية تعين على وضع الاحتمالات والنتائج في منظورها الصحيح.
الحقيقة الأولى أن اقتصادات دول الخليج التي كانت تشكل، من حيث الناتج المحلي الإجمالي، أكثر من 60% من الناتج الإجمالي لكل الدول العربية في فترات ارتفاع أسعار النفط فوق حاجز الـ 100 دولار للبرميل الواحد، قد تراجعت الآن إلى أقل من 50% بالدولار الدولي.
ووفق الإحصاءات المتاحة للعام 2016، فإنه لا يشكل أكثر من 47% من الناتج المحلي العربي الإجمالي. أما الناتج المحلي السعودي (618 بليون دولار دولي) فهو يساوي اقتصادات عشر دول عربية.
والحقيقة الثانية أن أكبر تسعة صناديق سيادية من أصل عشرة في منطقة الشرق الأوسط هي في دول الخليج الست. وتبلغ موجودات هذه الصناديق حوالي 2.6 تريليون دولار، ويستثمر أقلها في الوطن العربي وداخل دول الخليج، وأكثرها خارج الوطن العربي.
الحقيقة الثالثة أن عدد سكان الخليج يبلغ حوالي 51 مليون نسمة، بمن فيهم الأجانب المقيمون فيها، والذين يقدّرون بثلث مجموع السكان على الأقل، بينما يبلغ تعداد الوطن العربي المقدّر في نهاية عام 2016 حوالي 395 مليونا، أي أن ثمن سكان الوطن العربي يقطنون الخليج، ويحوزون نصف دخل الوطن العربي.
الحقيقة الرابعة أن معظم الدول العربية تعتمد في دخلها من العملات الأجنبية بين 20%-60% على تعاملاتها الاقتصادية مع دول الخليج، بما في ذلك الاستثمارات، والمساعدات بدون مقابل، والتبرّعات، والقروض الميسرة من صناديق التنمية الخليجية أو العربية المموّلة في معظمها من دول الخليج، ومن السياحة والنقل والخدمات الخليجية الأخرى. ولكن الأهم هو الحوالات من العاملين العرب في دول الخليج، والتي تشكل رصيداً مهما لبعض الدول العربية، مثل الأردن، ولبنان، وسورية، ومصر، وتونس، والمغرب، والسودان، وبالطبع اليمن.
والحقيقة الخامسة أن دول الخليج متداخلة في بعضها بعضاً، على الرغم من التنافس الكبير فيما بينها، والذي ازداد حدة بعد البدء بتنفيذ البرامج الساعية إلى تنويع اقتصادات الخليج بعيداً عن النفط والغاز. وسيكون لأي ترتيبات جديدة تخلّ بتلك العلاقة نتائج وخيمة على اقتصادات دول الخليج كلها.
لا نريد أن نقول إن إسرائيل هي الفائز الأكبر من احتمالات تفكّك مجلس التعاون، أو تراجعه أو تقلصه. ولكن الواضح أن هذه ستكون ضربة قاسية لكل الدول العربية، خصوصًا التي ترتبط اقتصاداتها بحكم الجوار، والتاريخ، والتحالفات السابقة وغيرها، مع دول الخليج برباط اقتصادي واجتماعي وسياسي واستراتيجي متين.
والخشية، كل الخشية، أنه إذا استمرت هذه الأزمة فترة طويلة، حتى لو بقيت على وتيرتها الحالية من دون تصعيد كبير، سوف تضع ضغوطاً متزايدة على الدول العربية الأخرى، لأخذ مواقف من هذا الفريق أو ذلك. وإذا استمر الحصار ضد دولة قطر، فإنها ستكون مضطرّة إلى الرد على المقاطعة، ما يعزز فرصة تذويب مجلس التعاون أو تقليصه.
وحيث إن دول مجلس التعاون تواجه تحديات متزايدة في الإقليم، وزيادة استهداف لها من الدول الثلاث غير العربية في المنطقة، ومن تراجع في مداخيلها وزيادة في ضرائبها، خصوصا على المقيمين فيها، أو الزائرين لها، فإن الوطن العربي سيضطر للبحث عن بدائل، حتى يتمكّن من تعويض مداخيله المتراجعة من دول الخليج.
لا نريد أن نذكّر أبناء الوطن العربي كله بما تفعله إسرائيل، وما تستغله من انشقاق الصف العربي، الكلي والإقليمي، لكي تنفذ مخططاتها في الأرض المحتلة، خصوصا في القدس.
المطلوب الآن تعقيل المواقف السياسية بالفهم الاقتصادي والواقع الاقتصادي. ولكن مطلوب أيضاً رصّ الصفوف لمواجهة المخاطر التي تحيط بنا من كل جانب.