يعد ترسيم الحدود البحرية في مياه البحر المتوسط، قضية شائكة، وأطرافها كثر، ولكن مصر استطاعت خلال العام 2013 أن تتوصل لتوقيع اتفاقاً مع الكيان الصهيوني وقبرص بشأن إعادة ترسيم الحدود البحرية، بموجبه تم العمل في حقل ظهر للغاز الطبيعي الواقع قبالة السواحل المصرية.
لكن هذا الاتفاق لم يلق في حينه ترحيباً من تركيا، وأعلنت آنذاك أن أي اتفاق لترسيم الحدود البحرية في مياه البحر المتوسط لا بد أن يتم في إطار الشركاء جميعا.
ومؤخرا أعلن وزير خارجية تركيا، مولود جاووش أوغلو، عدم اعتراف بلاده بالاتفاقية الموقعة بين مصر وقبرص، إلا أن القاهرة اعتبرت ذلك مساساً بسيادتها وأعلنت رفضها لهذا التصريح، وذلك على ضوء قرار قبرص بالسماح لشركة "إيني" الإيطالية بالعمل في استكشاف آبار الغاز في مناطق هي محل نزاع بينها وبين تركيا، مما ألجأ تركيا إلى تحريك قواتها البحرية لمنع أعمال الاستكشاف، والتحذير من مغبة القيام بأعمال منفردة من دون التوصل لاتفاق بشأن إنهاء النزاع حول الحدود البحرية.
وعلى ما يبدو، فإن النفط والغاز هما مصدر شقاء في منطقة الشرق الأوسط، من جانب الدول التي تمتلك هذه الموارد الطبيعية، حيث تتفنن بعض هذه الدول في تبديد هذه الثروة، دون أن ينعم مواطنوها بخيراتها عبر مشروعات تنموية، بينما تبدد الحكومات هذه الثروات في الحروب وممارسات فساد تتعلق بثروات المسئولين الحكوميين وذويهم.
ومن جهة أخرى تتكالب القوى العالمية وبخاصة الدول الصناعية على تلك الثروة لاستنزافها بأقل ثمن ممكن، سواء كان ذلك عبر إشعال الفتن والحروب البينية لدول المنطقة النفطية، أم بالتدخل المباشر عبر القوة الخشنة، كما حدث في العراق.
وفي الحالة التركية القبرصية، نجد أن إحياء هذه الأزمة وإدارتها لها أكثر من دلالة من حيث التوقيت، ومن هذه الدلالات، تشتيت الجهود التركية الحالية والتي تركز على المعركة داخل سورية لمواجهة الأحزاب الكردية التي تتبنى أعمال العنف وتسعى لتكون تهديدا حقيقيا لتركيا، عبر تمويلات أميركية وغربية صريحة، مثلت محل اعتراض الحكومة التركية ورئيسها.
وقد تكون قبرص رأت أن اللحظة سانحة لاتخاذ موقف منفرد بشأن النزاع على الحدود المائية المشتركة في البحر المتوسط، حيث إن تركيا مشغولة بالحرب في سورية وكذلك في العراق، ولديها تحديات داخلية، وحسبت أن الوقت يمثل نقطة ضعف لدى أنقرة، ولكن رد الفعل التركي كان حازما.
وتحتاج تركيا في إدارة الأزمة خلال الفترة القادمة إلى حصافة تمكنها من الحفاظ على حقوقها الكاملة من الغاز الطبيعي المتاح بمنطقة النزاع، عبر القنوات الدبلوماسية، ومن دون التورط في حرب.
والأمر الثاني لإثارة معركة الغاز بين قبرص وتركيا، أنه يراد له أن يكون ورقة ضغط على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه في الانتخابات المنتظرة في 2019، والتي ستكون شاملة للبلديات والبرلمان والرئاسة، وتسعى القوى الغربية وأميركا لإظهار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه في موقف ضعيف ومفرط في الموارد الطبيعية والقضايا التاريخية لتركيا، مما يؤثر على أصوات المؤيدين له، وعدم السماح له بحسم الانتخابات المقبلة بالأغلبية التي تمكنه من الوصول لمشروعه الخاص بتركيا 2023، ودخول تركيا في دوامة داخلية من عدم الاستقرار السياسي والأمني.
وقد أشارت وسائل إعلام عربية إلى أن إيطاليا تعتزم تحريك فرقاطة حربية تجاه قبرص لتمكين شركة "إيني" الإيطالية من ممارسة أعمالها لاستكشاف الغاز في المياه القبرصية، وإنهاء قيام السفن التركية بتعطيل أعمال الشركة، لكن ثمة تصريحات تم نشرها بشأن اتصالات بين وزيري خارجية تركيا وقبرص لإنهاء المشكلة، ولكنها لم تسفر بعد عن نتائج يمكن البناء عليها.
ويأتي التحرك التركي لوقف الأعمال القبرصية بالبحث والاستكشاف عن آبار الغاز في منطقة الحدود، ليمثل رسالة مبكرة للكيان الصهيوني، لكي لا يكرر نفس الفعل، فالكيان الصهيوني يدعي أن له حقاً في الغاز بتلك المنطقة.
نزاع بالوكالة
وعلى ما يبدو فإن تركيا التي أضحت تعتمد بشكل كبير في قراراتها الإقليمية والدولية على اعتبارات جديدة، تجعل منها ندًا خارج نطاق التبعية، أقلق القوى الكبرى، خاصة الاتحاد الأوروبي وأميركا، اللذين كانا يعتبران تركيا أحد أدواتهما في المنطقة.
ولم تكن قبرص اليونانية لتجرؤ على اتخاذ قرار أعمال الاستكشاف بالمنطقة البحرية المتنازع عليها، دون أن يكون لها سند من الاتحاد الأوروبي الذي خسر العديد من المواقف مع أردوغان خلال السنوات الماضية.
وعلى الجانب الآخر كانت رسالة أردوغان لقبرص اليونانية كذلك موجهة لمن دفعوا بها لخوض مثل هذا النزاع، فالجميع يعلم تقدير قبرص لقوة تركيا وقدرتها على أي نزاع وفق حسابات القوة.
تركيا وحاجتها للوقود
تعتبر تركيا مستورداً صافياً للطاقة منذ سنوات، وتسعى بشكل كبير للاعتماد على إنتاج الطاقة من المصادر النظيفة أو المتجددة مثل الرياح والطاقة الشمسية، ولكنّ مساهمة هذه المصادر ما زالت محدودة مقارنة باحتياجات تركيا من الوقود، فواردات تركيا السنوية من النفط والغاز الطبيعي تتراوح ما بين 40 و50 مليار دولار.
ولذلك تركز تركيا بشكل كبير في زيادة الاستثمارات في مجالات الطاقة المتجددة، ففي عام 2017 وصلت للمرتبة الرابعة عالميا في إنتاج الطاقة الحرارية، لإنتاج 1100 ميغاواط من الطاقة الحرارية، ورغم هذه الجهود لا تزال توفر فقط 25% من احتياجاتها من الطاقة.
ولذلك فالبعد الاقتصادي حاضر بقوة في إطار إدارة المشهد حول أزمة آبار الغاز الطبيعي على مناطق الحدود في مياه المتوسط، سواء من قبل تركيا وقبرص، وكذلك الأطراف الخارجية التي يصل بها الأمر لتدخل عسكري إذا ما تطلب الأمر مثل إيطاليا، فالتقديرات تشير إلى أن كميات الغاز في المنطقة المتنازع عليها بين قبرص وتركيا تبلغ نحو 122 تريليون قدم مكعبة.
ومن شأن حصول تركيا على حصة عادلة من آبار الغاز الطبيعي في المنطقة المتنازع عليها، أن يحسّن كثيرا من عجز ميزانها التجاري، الذي بلغ نحو 56 مليار دولار في 2016، وستكون الفرصة البديلة للإنفاق على استيراد الوقود توجيه هذه الأموال لتطوير مشروعات البنية الأساسية أو الإنفاق الاجتماعي بمجالات التعليم والصحة.
كما أن الغاز الطبيعي يعد من مصادر الطاقة النظيفة وغير الملوثة كالفحم الذي يستخدم داخل تركيا، وبخاصة في بيوت الفقراء، الذين يحصلون على مخصصات الحماية الاجتماعية أو الدعم النقدي.
ويبدو أن النزاع حول حقول الغاز في البحر المتوسط، لن يتوقف عند الحالة التركية القبرصية، ولكنه سيكون ممتدا خلال الفترة المقبلة بين بقية الأطراف، سواء لتداعيات اقتصادية، في ظل تراجع اقتصاديات العديد من دول المنطقة باستثناء تركيا والكيان الصهيوني، أو لتداعيات سياسية يسعى فيها الغرب وأميركا وقوى إقليمية أخرى لاستمرار حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني بالمنطقة على مدار السنوات المقبلة.