مع بداية الألفية الثالثة، ضرب الأرجنتين ركودٌ كبير، وتجاوز معدل البطالة عشرة بالمائة من القوى العاملة، وانخفضت العملة إلى مستويات غير مسبوقة، كما ارتفع الدين العام والدين الخارجي.
وبدأت الدولة تواجه صعوبات في الوفاء بالتزاماتها تجاه الدائنين. فاضطرت الحكومة الأرجنتينية للجوء إلى صندوق النقد الدولي طلباً للمساعدة، الذي ما لبث أن وافق على إقراضها 40 مليار دولار.
وكما هي عادة الصندوق، فقد فرض على الدولة المتأزمة وقتها برنامجاً للإصلاح الاقتصادي، يقوم بالأساس على إجراءات حكومية تقشفية خانقة، كما لو كان الصندوق يعاقب الدولة الكسولة التي تطلب مساعدته بسبب إسرافها.
لكن روشتة الصندوق لم تنجح وقتها في معالجة الاقتصاد المريض، وبدلاً من تحسن المؤشرات الاقتصادية، انهارت العملة الأرجنتينية، واستمر معدل البطالة في الارتفاع حتى وصل 20%، وأفلست الحكومة الأرجنتينية، فكانت تجربة الصندوق أليمة بالنسبة للحكومة وللشعب، حتى فقد الجميع هناك ثقتهم في المؤسسة الدولية، وفي النظام المالي العالمي برمته.
لم يستغرق الأمر أكثر من ثمانية عشر عاماً لتنسى الأرجنتين التجربة الأليمة، وتمد يدها مرة أخرى للصندوق. فمع رفع بنك الاحتياط الفيدرالي الأميركي معدلات الفائدة على الدولار ثلاثة أرباع الواحد بالمائة العام الماضي، وربعين جديدين العام الحالي، مع إصداره العديد من الإشارات التي تؤكد توجهه نحو رفع ربعين آخرين قبل نهاية العام الحالي، ثم ثلاثة أرباع أخرى على الأقل خلال العام القادم، تعرضت العملة الأرجنتينية لضغوط كبيرة، حتى فقدت حوالي خمسة وعشرين بالمائة من قيمتها خلال العام الحالي فقط، رغم تدخل البنك المركزي بائعاً للدولار عدة مرات، بسبب خروج الكثير من الاستثمارات من الأرجنتين، كما العديد من الاقتصادات الناشئة، وتوجهها إلى الولايات المتحدة.
هذه الاستثمارات تسعى (دائماً) للاستفادة من معدلات الفائدة على السندات الأميركية، مع تميزها بانخفاض، أو انعدام المخاطر، حيث تعد تلك السندات هي الأكثر أماناً على مستوى العالم، وتوصف بأنها "خالية من المخاطر" Risk Free. ومن ناحية أخرى، فقد بلغت ديون الأرجنتين الخارجية حوالي مائة مليار دولار، ويمتد بعضها لمائة عام، لم يمض منها إلا عامٌ واحدٌ فقط، وهو أمر مقلق للغاية للمستثمرين.
رحب الصندوق مرة أخرى بالأرجنتين، وقال في بيانه إنه اتفق على منح الحكومة الأرجنتينية تسهيلاً بخمسين مليار دولار لمساعدتها في تخفيض عجز الموازنة بها، ولإيقاف التدهور في قيمة العملة المحلية.
وأكد الصندوق على أن جزءاً هاماً من الاتفاق قد بُني على موافقة الحكومة على تسريع وتيرة تخفيض عجز الموازنة.
وأوضح الصندوق أن الحكومة الأرجنتينية تنفق أكثر مما تجمع من إيرادات، وتستورد بضائع تزيد قيمتها عن قيمة ما تصدره، وهو ما أدى إلى خلق عجز في الموازنة العامة للدولة، وعجز في حسابها الجاري (ويقصد به صافي صادرات/واردات السلع والخدمات)، حتى أصبحت الدولة برمتها عرضة للتقلبات الشديدة في قيمة عملتها.
وأعلنت الحكومة الأرجنتينية أنها ستمضي قدماً في تخفيض عجز موازنتها، وصولاً إلى تحقيق فائض، بحلول عام 2021.
وككل بلدان العالم، يوجد في الأرجنتين الكثير من "المتشائمين" الذين لا يرون إلا النصف الفارغ من الكوب. وهؤلاء يعارضون الاتفاق مع الصندوق تماماً، كونهم يعتبرونه المسؤول الأول عن أزمة إفلاس البلاد في عام 2001، وانهيار عملتها وانخفاض مستويات معيشة الملايين من الأرجنتينيين وقتها.
ويحاول هؤلاء استغلال الاتفاق لتأليب الرأي العام على الرئيس موريسيو ماكرو، الذي انخفضت بالفعل نسب الرضا عن أداء حكومته، كما هددت العديد من الاتحادات بتنظيم إضراب عام، بعدما زادت المعاناة بين الأفراد والشركات من دفع فواتير الكهرباء التي ألغت الحكومة الدعم الموجه لها، وفقاً لأوامر، أو إن شئت قل نصائح، الصندوق، بضرورة تقليص الإنفاق الحكومي.
عندما ترسل المؤسسات المالية نصائح لعملائها فيما يخص استثماراتهم، تذيل كتاباتها دائماً بديباجة مكررة، تقول فيها ما معناه أن الأداء السابق لبعض الصناديق، أو المؤشرات، أو الأسهم، ليس مؤشراً على أدائها في المستقبل، وهو نفس ما يقول به مؤيدو فكرة الحصول على قرض صندوق النقد واتباع برنامجه للإصلاح الاقتصادي في الأرجنتين، حيث يرون أن فشل برنامج الصندوق قبل أكثر من عقد ونصف عقد لا يعني بالضرورة أن الاتفاق الجديد مصيره الفشل. لكن فات هؤلاء على ما يبدو الحكمة القائلة بأن تكرار نفس الخطوات، بنفس الأسلوب، مع انتظار نتائج مختلفة يعد نوعاً من الغباء.
لا أحاول الإيحاء بأن الفشل سيكون المصير المحتوم لجهود الصندوق مع الأرجنتين، فالحقيقة أن هناك تجارب للصندوق في بلدان أخرى كللت بالنجاح، أو على الأقل ساعدت تلك الدول على وضع أقدامها على بداية الطريق الصحيح، وتجارب تركيا والبرازيل في أوائل الألفية الثالثة، أو باكستان وأوكرانيا بعد 2013، تشهد جميعها بذلك.
لكن الفارق الأساسي بين تلك التجارب وتجارب الأرجنتين السابقة التي فشلت تماماً كان في حقيقة واحدة أدركها الصندوق مع تلك الدول، وهي أنه إذا أراد أن يعالج المريض، فلا يتطلب ذلك قتله أولاً.
الاندفاع وراء توصيات الصندوق، والإسراع بتخفيض الإنفاق الحكومي على حساب المواطن العادي، ودون الأخذ في الاعتبار إجراءات الحماية الاجتماعية، لا يضمن أي شيء سوى استرداد الصندوق لأمواله، أو على الأقل الحفاظ عليها حتى يحين موعد سدادها.
لكن تكرار السياسات السابقة للصندوق، بما فيها من تجاهل تام لانخفاض مستويات المعيشة وترك المواطن العادي يصارع الحياة بنفسه هي وصفات أكيدة للفشل، خاصة إذا اقترنت بعدم علاج الأسباب التي تسببت في حدوث الأزمة، وعلى رأسها العجز الكبير في الحساب الجاري.
فما بال أقوامٌ يكررون نفس الروشتات والسياسات التي لم تنجح خلال العقود السابقة، ثم ينتظرون أن تطرح أشجار التفاح، التي ظنوا أنهم زرعوها، شيئاً آخر غير الحرنكش!