بعد ما يقرب من عامين من التشدد، ودفع الأمور إلى الحافة، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب دعمه لاستمرار تصدير محركات الطائرات التجارية الأميركية إلى الصين، رغم تعالي الأصوات، داخل إدارته، محذرة من نقل التكنولوجيا المتقدمة إلى المهدد الأول لزعامة الولايات المتحدة للاقتصاد العالمي.
وبعد شد وجذب على مدار الأسبوعين الأخيرين، لم يتم حسمهما حتى الآن، قال ترامب، في سلسلة تغريدات على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، الثلاثاء: "لا نريد تعجيز الآخرين عند التعامل معنا، فلن يعني ذلك إلا توجيه طلبات الشراء إلى دول أخرى".
وضرب ترامب المثل بمحركات الطائرات التي تشتريها الصين من الولايات المتحدة، ويحاول بعض مستشاريه وقف بيعها لهم، مؤكداً رغبته في "شراء الصين محركات طائراتنا، التي تعد الأفضل في العالم".
واعتبر محللون اقتصاديون أن تبدّل النبرة المتشددة، التي عبّر عنها ترامب بوضوح خلال الفترة الماضية، لا يعدو كونه محاولة من الرئيس الأميركي قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، من أجل كسب أصوات جماعات الضغط من أصحاب المصالح من منتجي ومصدّري محركات الطائرات، وأشباه الموصلات، وكافة منتجات التكنولوجيا الأميركية المتقدمة، الذين عبّروا عن استيائهم من الجهود الرامية إلى إيقاف تصدير تلك المنتجات، تحت اعتبارات الحفاظ على الأمن القومي الأميركي.
وتغاير تغريدات ترامب سياساته الصدامية التي انتهجها على صعيد التعاملات التجارية الدولية سابقاً. فقد فرض قبل عامين رسوماً على منتجات الصلب والألومنيوم في جميع أنحاء العالم، واصفاً تلك الواردات بأنّها تهديد للأمن القومي، وهدّد بالقيام بالمثل بالنسبة للسيارات الأوروبية.
وفي نزاعه التجاري الأكثر كلفة، أعلن ترامب فرض رسوم جمركية على جميع البضائع المستوردة من الصين تقريباً، غير أنّ التوصل إلى هدنة مع بكين في يناير/كانون الثاني، أدى إلى تعليق الأكثر ضرراً، لكنّ معظم الرسوم بقيت في مكانها.
من جانبهم، لم يقف الشركاء التجاريون للولايات المتحدة مكتوفي الأيدي، فقاموا بفرض رسوم عقابية على البضائع الأميركية مثل المنتجات الزراعية، ما أجبر الحكومة الأميركية على تقديم مساعدات بالمليارات لمزارعيها.
وفي النزاع الأخير حول الدعم الذي تتلقّاه شركة إيرباص من حكومات أوروبية، فرضت واشنطن رسوماً بنسبة 25 في المائة على مجموعة سلع، بينها النبيذ الفرنسي والإسباني والأجبان البريطانية.
كما فرض ترامب رسوماً على بضائع فرنسية رداً على الضريبة الرقمية. ومع ذلك كتب "أريد أن أجعل التعامل مع الولايات المتحدة سهلاً"، مؤكّداً أنّ "الولايات المتحدة مفتوحة للأعمال التجارية".
وفي الأزمة الحالية التي تشهدها الصين، بسبب انتشار فيروس كورونا الجديد، لم تظهر الولايات المتحدة أي تعاطف مع بكين، رغم خشىيتها من الأضرار الاقتصادية للفيروس القاتل، على تنفيذ الاتفاق التجاري مع الصين، والذي قد يؤدي إلى تأجيل الصين تنفيذ تعهدات بشراء ما تصل قيمته إلى 200 مليار دولار من المنتجات الأميركية خلال العامين القادمين.
وسارعت الولايات المتحدة إلى فتح أكثر من جبهة جديدة في الصراع مع الصين، وكأنها ترغب في منع ثاني أكبر اقتصاد في العالم من التقاط أنفاسه.
وكانت شركة هواوي، عملاق الصناعات التكنولوجية الصينية، التي تثق الإدارة الأميركية في صلتها بالحكومة الصينية، وإحدى أهم الشركات الصينية في الوقت الحالي، هي أول أهداف التصعيد الأميركي، حيث أعلنت الإدارة الأميركية أنها بصدد توسيع القيود المفروضة على بيعها أشباه الموصلات، لتشمل المُصنعين من خارج الولايات المتحدة.
وتعد الخطوة الأميركية تصعيداً إضافياً تجاه الشركة الصينية، بعد أن تمكنت أميركا من منع أغلب حلفائها في أوروبا الغربية من استخدام خدمات الشركة الصينية عند تصنيع ما يطلق عليه خدمات الجيل الخامس 5G من شبكات الاتصال.
وعلى صلة بالأمر، جاء في تقرير لشبكة بلومبرغ الأميركية، الإثنين الماضي، أن بعض مستشاري ترامب يسعون إلى فرض قيود جديدة على تصدير بعض المنتجات عالية التقنية للصين، ويأتي على رأسها محركات الطائرات التي يقوم بتصنيعها تحالف يجمع بين شركة جنرال إلكتريك الأميركية وشركة سافران الفرنسية، لمنعها من التوصل إلى تصنيع أول طائرة تجارية صينية.
لكن التصعيد الأميركي تجاه الصين قوبل باحتجاجات كبيرة من بعض جماعات المصالح في الولايات المتحدة، حيث رأت هذه الجماعات أن منع التصدير للصين يؤثر بصورة سلبية على الإنتاج الأميركي، ويحدّ من قدرة الشركات الأميركية على الابتكار.
وتحاول الشركات الأميركية دائماً الاستفادة من ضخامة السوق الصينية لتسويق منتجاتها من أشباه الموصلات ومحركات الطائرات، وكافة منتجات التكنولوجيا الحديثة، باعتبارها أكبر سوق في العالم، وليبقى الاقتصاد الصيني دائماً معتمداً على التكنولوجيا الأميركية.
وتسبب وضع شركة هواوي ضمن القائمة السوداء للشركات الأميركية، في تراجع أرباح العديد من مصنعي الرقائق في الولايات المتحدة مثل كوالكوم، كما أضر بالأعمال التجارية الخارجية لشركة غوغل، التي تمد شركة صناعة الهواتف الذكية الصينية بنظام التشغيل أندرويد.
والثلاثاء الماضي، أشاد جون نوفر، الرئيس التنفيذي لاتحاد صناعة أشباه الموصلات، بتغريدات ترامب التي دعم فيها تصدير المنتجات الأميركية للصين، وعارض فرض قيود تحد من القدرة على تصديرها من دون مبرر.
وقال نوفر في بيان إنهم أوضحوا للإدارة الأميركية أن "مبيعات المنتجات التجارية غير الحساسة إلى الصين تدفع بالبحوث والابتكار في مجال أشباه الموصلات، وهو أمر بالغ الأهمية للقوة الاقتصادية الأميركية وأمنها القومي".
وأكد اتحاد صناعة أشباه الموصلات، أن الصين تستورد ما يقرب من 36 في المائة من إجمالي صادرات الشركات الأميركية من أشباه الموصلات حول العالم، والتي بلغت العام الماضي 2019 ما يقرب من 193 مليار دولار، وأن أغلب عوائد تصدير تلك المنتجات يعاد استثمارها في أبحاث تهتم بتطوير رقائق أكثر حساسية، ضرورية لصناعة الجيل الأحدث من الطائرات المقاتلة ومن الأسلحة الأخرى.
وعملت شركة جنرال إلكتريك منذ فترة على عرقلة الخطوة الأميركية المتوقعة، حيث أكد متحدث باسم الشركة، لشبكة فوكس نيوز بيزنس، الاثنين الماضي، أن "محاكاة تقنيات التصنيع المتقدمة التي أنتجت محرك الطائرات أصعب بكثير مما يعتقد بعض مسؤولي الإدارة الأميركية".
ومن الناحية العملية، تؤكد الشركة أن "محركاتها تعمل على أرض الواقع في الصين منذ سنوات، مما يعني أن المصنعين الصينيين ربما بدأوا بالفعل الهندسة العكسية لمعرفة أسرار تصنيعها والتكنولوجيا المستخدمة".
ومن المتوقع أن يجتمع بعض كبار المسؤولين في إدارة ترامب، بمن فيهم وزير التجارة ويلبر روس، ووزير الدفاع مارك إسبر، ووزير الخزانة ستيفن منوشين، هذا الشهر، لمناقشة تدابير مراقبة الصادرات ضد شركة هواوي والصين، بعد أن واجهت الإدارة انتقادات مفادها أن "المزيد من القيود على الصادرات إلى الصين قد يخنق الوظائف الأميركية ويحدّ من القدرة التنافسية لمنتجات الولايات المتحدة"، وهو ما دعا ترامب إلى إصدار تغريداته الأخيرة، أملاً في الحصول على دعم الفئات المتضررة من تعطيل الصادرات الأميركية للصين.
وفي الواقع، كانت الشركات الأميركية قد اضطرت إلى تغيير طبيعة عملياتها أو تقديم التماسات لنيل إعفاءات من السياسات التجارية المفروضة. وبطريقة مماثلة، تحوّل الزبائن الأجانب للبضائع الأميركية إلى مصادر أخرى في كثير من الحالات.
وقالت تشاد باون، الخبير التجاري في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، في دراسة حديثة، وفق فرانس برس، إنه "مع الجولات المتعاقبة من فرض الرسوم الجمركية، كان ترامب يدفع بمزيد من الشركات الأميركية كي تصبح حمائية".
وأضافت "بالنسبة للعديد من الأميركيين، فإن الأكلاف المرتفعة التي ترتّبها رسومه تعني أنّه ليس باستطاعتهم بعد الآن منافسة الشركات الأجنبية، سواء في الولايات المتحدة أو الأسواق العالمية".