في حلب التي تنزف كل يوم، حيث القتل والدمار والجوع والقصف والتهجير، تولد الأساطير الوحشية والإنسانية أيضاً. حلب، هذه المدينة التي نعرفها بأسوارها ومبانيها القديمة، بقدودها ومأكولاتها، بذاكرتها السياسية ودورها التجاري، بأشعار المتنبي وحكم سيف الدولة فيها. حلب التي يعتبر الصراع عليها اليوم صراعاً على التاريخ، والتي تستنزف كل قواها البشرية، تعيش في أحيائها المحاصرة حكايات إنسانية رقيقة، تنقلها لنا وسائل الإعلام بين الحين والآخر، لتجعل منها أسطورة، كأسطورة سائق سيارة الإسعاف الذي أنشأ محميةً للقطط في المدينة المنكوبة، وذلك في ظلّ القصف الأسدي والروسي الذي يحاول أن يبيد المدينة عن بكرة أبيها.
أياً كان اسمه لا يهم، سواءً كان اسمه محمد علاء الجليل، كما ورد في تقرير إذاعة "بي بي سي"، أو علاء طبية، كما ورد في تقرير وكالة "سمارت" للأنباء، أو أبو علاء كما ورد بمصادر إعلامية أخرى، فإن ذلك لا يهم، ولن يغير في فحوى هذه الأسطورة المعاصرة. تروي الحكاية قصة شاب، يعملُ كسائقٍ لسيارة الإسعاف، تحوّل منزله بفعل هجرة سكان المدينة والحروب الميدانية والقصف الجوي إلى مأوى للقطط، وهو يضم اليوم قرابة 170 قطة، بعضها كانت تقطن في منازل أصدقائه المهاجرين، وبعضها الآخر أتت من أزقة المدينة الخالية.
وعلى الرغم من اختلاف تفاصيل القصة في المنابر الإعلامية المختلفة، إلا أن الحقيقة الثابتة والأهم، بأن ذلك يحدث اليوم في حلب، ولو أنه كان يحدث في مدينة أخرى، لما كان حظي بنفس الاهتمام من الممولين والإعلام، فبالتأكيد هناك من يطعم القطط في إدلب وحمص ودير الزور والمدن الأخرى، ولكن أهمية حلب التاريخية هو ما جعل القصة تنحو نحو الأسطورة، إلا أن أسطرة القصة لا ينقص من قيمتها الإنسانية، فما قام به سائق سيارة الإسعاف هو بادرة إنسانية صادقة وجميلة بكل تأكيد، وتدلّ بشكل أو بشكل آخر بأنه لا شيء ينجو من الحروب، البشر والحجر والحيوانات.
هذه البادرة الإنسانيّة اللطيفة التي أطلقها الشاب الحلبي لفتت أنظار مئات الأشخاص من دول مختلفة، والذين قاموا بالمساهمة بهذا العمل الإنساني بدورهم، وذلك من خلال إرسال بعض الأموال والمساعدات. كما جذبت هذه البادرة أنظار المنظمات غير الحكومية، والتي حاولت أن تتبنى المحمية وأن تدعمها، ولا سيما بعد أن تعرضت المنطقة للحصار في الأسابيع الأخيرة. وبعد أن أصبح القائم على المشروع يلجأ لحلول بديلة لإطعام القطط، بسبب عدم توافر الأغذية في المنطقة عموماً نتيجة الحصار القائم، ولأن دوافع هذه البادرة كانت إنسانية منذ بدايتها، فإن سائق سيارة الإسعاف صرّح لوكالة "سمارت" للأنباء، بأنه سيستفيد من الأموال التي تجذبها المحمية، لإنشاء مساحة خاصة للأطفال الذين لا يجدون مكاناً للطفولة في مدينتهم، وليثبت بأفكاره البسيطة أن الفعل الإنساني لا يتجزأ، وبأن إنشاء محمية القطط هذه، ليست طريقة جديدة لجذب الأموال وحسب، بعد أن أصبحت أرواح السوريين بضاعة منتهية الصلاحية يصعب المتاجرة بها، بل هي محاولة لإلقاء الضوء على عمق الكارثة الإنسانية التي تشهدها المدينة.