"لم يكن يوماً موفَّقاً البتّة". تعبيرٌ يتردّد على ألسنة نقاد وصحافيين سينمائيين، في وصفهم أحد أيام الدورة الـ39 (21 ـ 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2017) لـ"مهرجان القاهرة السينمائيّ الدوليّ"، بسبب مشاهدتهم أفلاماً، قصيرة وطويلة، غير قادرة على امتلاكِ حدٍّ أدنى من جمالية الصورة، وعمق المعالجة، وبراعة الاشتغال التقني ـ الفني. ففي مقابل رداءة الأفلام القصيرة المصرية الـ3، المشاركة في "مسابقة سينما الغد الدولية للأفلام القصيرة"، يبرز فيلمان طويلان ـ مشاركان في "المسابقة الدولية" ـ كأنهما يُنافسان تلك الرداءة، برداءة أكبر.
هي خيبة. هذا شعورٌ يتحوّل إلى مشتركٍ بين مشاهدين سينمائيين، في مواجهة آراء أخرى تناقضه. غير أن المأزق الأبرز كامنٌ في آلية الاختيار وأسبابه، ما يؤدّي إلى تساؤلات مختلفة: كيف يُمكن الموافقة على أن تَفْتتح الأفلام القصيرة المصرية الـ3 تلك المسابقة، المعنونة بـ"سينما الغد"(!)، وهي دون المستوى الطبيعي المطلوب بحدّه الأدنى، على الأقلّ؟ فهل هذا حاصلٌ بسبب غياب "السينما المصرية" في المسابقة الدولية؛ أم أنه نتاج بعض الخفّة في التعامل مع السينما، ومع المفهوم الدوليّ للمهرجان، ومع آليات البحث والاختيار؟
وبالتالي: ما الداعي إلى انتقاء فيلمين طويلين لديهما قدرة فائقة على إثارة الملل والنفور، في انعدامٍ واضح لوجود السينما فيهما؟ فهل هذا ناتجٌ من المآزق المختلفة التي يُعانيها المهرجان، مالياً وإدارياً وتنظيمياً وعلاقات دولية/ فتعيق حصوله على الأفضل والأهمّ؛ أم أن "اللامبالاة" سببٌ لبلوغ مرتبة عادية للغاية كهذه؟
أما الأفلام القصيرة، فهي: "كلّ الطرق تؤدّي إلى روما" (15 د.) لحسن صالح وانّي، و"رَدْ فيلفيت" (15 د.) ليوسف محمود، و"حاجة ساقعة" (20 د.) لعمروش بدر. المشترك بينها متنوّع: ارتباك في تحصين السيناريو من ركاكة المعالجة، في مقابل حكايات مستلّة من وقائع العيش اليومي على حافة الخراب، أو في قلب المتاهات غير المتناهية؛ تقطيع بصري غير قادرٍ على منح الحبكة مساراً سردياً متماسكاً؛ عجز واضح عن إدارة الممثلين، وعن تحويل الكاميرا إلى مرايا حقيقية لمروياتٍ إنسانية مختلفة؛ تسجيل الصوت يتضارب مع أبسط المفردات التقنية للتسجيل؛ تصويرٌ عاديّ للغاية، غير ممتلك حدّاً أدنى من جمالية الصورة وتعبيرها البصري.
الموضوع "الإنساني" لن يتمكّن، أبداً، من صُنع فيلم سينمائيّ. هذا قول مُكرَّر. الشابّة أمل (لولو يحيى) تكتشف، قبل ساعات من سفرها إلى روما في رحلة عمل، أنها حامل. تريد لقاءً أخيراً مع "حبيبها"، المنشغل عنها بأمورٍ كثيرة، فإذا بالنصّ يسرد جوانب مختلفة من لقاء به، يعكس حالات اجتماعية وذاتية ونفسية عديدة، تُعانيها الشابات المصريات، في ظلّ مناخ اجتماعي متشدّد، وفي شريطٍ باهت ومفكّك (الفيلم الأول). هذا مختلفٌ تماماً عن حكاية آسر (آسر هاني)، ابن الأعوام الـ5، الذي يواجه، وحيداً، حالة "غريبة" عليه، تتمثّل في "عدم استيقاظ والدته من النوم". الوعكة الصحية الخطرة مميتة، والتواصل الوحيد لآسر مع العالم الخارجي متمثّل بهاتف خلوي واتصال من عاملة طوارئ، تريد الاستفسار عن حالة المتصلّة بها قبل "غيابها عن السمع" (الفيلم الثاني). أما الشخصيات الكثيرة، في الفيلم الثالث، فتتشعّب حكاياتها من دون أن يكون بينها أي رابط، درامي أو اجتماعي أو إنساني أو حسّي، باستثناء عيشها حالات اكتئاب وتفكّك وفوضى صامتة، في مدينة غارقة في بؤس اليوميّ، وشقاء الفرديّ.
في المسابقة الدولية (16 فيلماً مُنتجة كلّها عام 2017)، تبرز الركاكة والسطحية والارتباكات في مستويات عديدة، في فيلمي "راديو" (الهند، 125 د.) لساغار فانجاري (1987)، و"موسم في فرنسا" (فرنسا، 97 د.) لمحمد صالح هارون (1961). الإطالة البصرية والسردية لحكاية الهنديّ تاتو (شاشانك شيندي) تُصيب الحبكة في مقتل. بحثه عن جهاز راديو مسروق من بيته ـ الذي يُراد له أن يعكس شيئاً من أنماط العيش الريفي في الهند، مطلع سبعينيات القرن الـ20 ـ واقعٌ في مصيدة التكرار والتداخل غير الموفَّق بين الأغنية والتفاصيل الدرامية، أو بين التمثيل والحالات النفسية والاجتماعية لشخصيات تحيط بتاتو، وتتواصل معه. السردية المُسطّحة لمسألة اللاجئين الشرعيين إلى فرنسا، تجعل الفيلم الأخير للتشاديّ هارون مُتعِباً وغير نافع. مشاركة الفرنسية ساندرين بونّير (1967) غير قادرة على أن تشفع به، فتعجز عن إنقاذه من رتابة الحكاية، وانعدام أي تكثيف درامي أو زمني في أكثر من مشهدٍ. رفض طلب اللجوء لعباس (إيريك إيبُوَاني، 1967) ولولديه سببٌ للتعمّق في ملفٍ شائك، تعانيه فرنسا وأوروبا منذ أعوام كثيرة. لكن الأسلوب المعتمد في مقاربته الدرامية مائلٌ إلى سطحيةٍ غير لائقة بسيرة مخرج مُقيم في فرنسا منذ عام 1982، وله أفلام جادّة ومهمّة، كـ"أبونا" (2002) و"دارّات" (2006) و"غْريغْري" (2013) مثلاً.
هذه نماذج مستلّة من مسابقتين مختلفتي التوجّه والاهتمام. لكنها نماذج تقول شيئاً من معاناة مهرجان، يبدو أن أموره لن تستقيم، في بلدٍ مُصابٍ بمآزق شتّى.
اقــرأ أيضاً
وبالتالي: ما الداعي إلى انتقاء فيلمين طويلين لديهما قدرة فائقة على إثارة الملل والنفور، في انعدامٍ واضح لوجود السينما فيهما؟ فهل هذا ناتجٌ من المآزق المختلفة التي يُعانيها المهرجان، مالياً وإدارياً وتنظيمياً وعلاقات دولية/ فتعيق حصوله على الأفضل والأهمّ؛ أم أن "اللامبالاة" سببٌ لبلوغ مرتبة عادية للغاية كهذه؟
أما الأفلام القصيرة، فهي: "كلّ الطرق تؤدّي إلى روما" (15 د.) لحسن صالح وانّي، و"رَدْ فيلفيت" (15 د.) ليوسف محمود، و"حاجة ساقعة" (20 د.) لعمروش بدر. المشترك بينها متنوّع: ارتباك في تحصين السيناريو من ركاكة المعالجة، في مقابل حكايات مستلّة من وقائع العيش اليومي على حافة الخراب، أو في قلب المتاهات غير المتناهية؛ تقطيع بصري غير قادرٍ على منح الحبكة مساراً سردياً متماسكاً؛ عجز واضح عن إدارة الممثلين، وعن تحويل الكاميرا إلى مرايا حقيقية لمروياتٍ إنسانية مختلفة؛ تسجيل الصوت يتضارب مع أبسط المفردات التقنية للتسجيل؛ تصويرٌ عاديّ للغاية، غير ممتلك حدّاً أدنى من جمالية الصورة وتعبيرها البصري.
الموضوع "الإنساني" لن يتمكّن، أبداً، من صُنع فيلم سينمائيّ. هذا قول مُكرَّر. الشابّة أمل (لولو يحيى) تكتشف، قبل ساعات من سفرها إلى روما في رحلة عمل، أنها حامل. تريد لقاءً أخيراً مع "حبيبها"، المنشغل عنها بأمورٍ كثيرة، فإذا بالنصّ يسرد جوانب مختلفة من لقاء به، يعكس حالات اجتماعية وذاتية ونفسية عديدة، تُعانيها الشابات المصريات، في ظلّ مناخ اجتماعي متشدّد، وفي شريطٍ باهت ومفكّك (الفيلم الأول). هذا مختلفٌ تماماً عن حكاية آسر (آسر هاني)، ابن الأعوام الـ5، الذي يواجه، وحيداً، حالة "غريبة" عليه، تتمثّل في "عدم استيقاظ والدته من النوم". الوعكة الصحية الخطرة مميتة، والتواصل الوحيد لآسر مع العالم الخارجي متمثّل بهاتف خلوي واتصال من عاملة طوارئ، تريد الاستفسار عن حالة المتصلّة بها قبل "غيابها عن السمع" (الفيلم الثاني). أما الشخصيات الكثيرة، في الفيلم الثالث، فتتشعّب حكاياتها من دون أن يكون بينها أي رابط، درامي أو اجتماعي أو إنساني أو حسّي، باستثناء عيشها حالات اكتئاب وتفكّك وفوضى صامتة، في مدينة غارقة في بؤس اليوميّ، وشقاء الفرديّ.
في المسابقة الدولية (16 فيلماً مُنتجة كلّها عام 2017)، تبرز الركاكة والسطحية والارتباكات في مستويات عديدة، في فيلمي "راديو" (الهند، 125 د.) لساغار فانجاري (1987)، و"موسم في فرنسا" (فرنسا، 97 د.) لمحمد صالح هارون (1961). الإطالة البصرية والسردية لحكاية الهنديّ تاتو (شاشانك شيندي) تُصيب الحبكة في مقتل. بحثه عن جهاز راديو مسروق من بيته ـ الذي يُراد له أن يعكس شيئاً من أنماط العيش الريفي في الهند، مطلع سبعينيات القرن الـ20 ـ واقعٌ في مصيدة التكرار والتداخل غير الموفَّق بين الأغنية والتفاصيل الدرامية، أو بين التمثيل والحالات النفسية والاجتماعية لشخصيات تحيط بتاتو، وتتواصل معه. السردية المُسطّحة لمسألة اللاجئين الشرعيين إلى فرنسا، تجعل الفيلم الأخير للتشاديّ هارون مُتعِباً وغير نافع. مشاركة الفرنسية ساندرين بونّير (1967) غير قادرة على أن تشفع به، فتعجز عن إنقاذه من رتابة الحكاية، وانعدام أي تكثيف درامي أو زمني في أكثر من مشهدٍ. رفض طلب اللجوء لعباس (إيريك إيبُوَاني، 1967) ولولديه سببٌ للتعمّق في ملفٍ شائك، تعانيه فرنسا وأوروبا منذ أعوام كثيرة. لكن الأسلوب المعتمد في مقاربته الدرامية مائلٌ إلى سطحيةٍ غير لائقة بسيرة مخرج مُقيم في فرنسا منذ عام 1982، وله أفلام جادّة ومهمّة، كـ"أبونا" (2002) و"دارّات" (2006) و"غْريغْري" (2013) مثلاً.
هذه نماذج مستلّة من مسابقتين مختلفتي التوجّه والاهتمام. لكنها نماذج تقول شيئاً من معاناة مهرجان، يبدو أن أموره لن تستقيم، في بلدٍ مُصابٍ بمآزق شتّى.