فقد الوسط الفني في مصر أحد أعمدة الدراما العربية برحيل السيناريست والكاتب، محفوظ عبد الرحمن، الذي قضى حوالي خمسين عامًا مهموماً بتأريخ الحقب الزمنية، لتكون مرجعاً لكل الأجيال من خلال مسلسلات حفرت في أذهاننا، وتعلقنا بها.
قدم الكاتب الراحل عدداً كبيراً من الأعمال المهمة، وكان أول عمل يكتبه مسرحياً هو "حفلة على الخازوق"، ثم قدم مسلسل "سليمان الحلبي"، وحقق نجاحاً كبيراً أخافه هو شخصياً؛ كونه لم يكن ينوي أن يكمل حياته كاتباً. لكن بعد النجاح الذي شاهده، غيّر رأيه، ثم قدم عدة أعمال أخرى، حتى جاءت الملحمة الدرامية "بوابة الحلواني" بأجزائها الثلاثة وذلك عام 1991. وأحدث هذا العمل الذي أنتجه ممدوح الليثي ضجة كبيرة كونه غيّر في شكل العمل التاريخي ونقله بأحداث اجتماعية حياتية. رصد العمل فترة تأميم قناة السويس بمنظور حياتي اجتماعي، وكان أول كاتب يرصد هذا الحدث العظيم، وكيف أن الغرب أصيب بصدمة من هذا التأميم، فتعلق الكثيرون بهذا المسلسل. حتى إن شارة العمل التي غناها الفنان، علي الحجار، لا يزال بعض الفنانين يقدمونها حتى الآن في حفلاتهم لما تحمله من حماسة وطنية كبيرة.
كما قدم الكاتب الذي تخرج في قسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة القاهرة سلسلة طويلة من المسلسلات المهمة مثل "أم كلثوم" التي جسّدت الشخصية فيها الفنانة صابرين شخصيَّة أم كلثوم، و"الفرسان يغمدون سيوفهم" و"غرناطة" و"عنترة" وغيرها من الأعمال التي سردت حقباً زمنية متفاوتة.
وعلى الرغم من تقديمه لهذا الكمّ من الأعمال، إلا أنه توقف منذ فترة غاضباً من "شكل الدراما المصرية السيئ" التي وصفها في حوار له، وبأن ما يشاهده الآن على شاشة التلفزيون، يشبه أفلام البورنو. أما في مجال السينما، فقد قدم ثلاثة أفلام فقط هي "حليم" عام 2005 من إخراج شريف عرفة، وفيلم "ناصر 56" عام 1996، وفيلم "القادسية"، ووصف محفوظ السينما المصريَّة الحديثة بأنها أصبحت الآن معادية للإنسان، وتشوّه الأخلاقيات وصورة مصر أمام العالم كله، كما لو كانت هناك محاولة من عدو لتحويل مصر إلى شيء سيئ من خلال السينما. ووصفها ذات مرة بالسفالة وقلة الأدب، موضحاً أن السينما طيلة تاريخها لم تكن بهذا السوء، ويجب أن تتدخل الدولة لوقف هذه المهزلة التي باتت لا حدود لها.
الحياة الخاصة
تزوج محفوظ عبد الرحمن من الفنانة القديرة، سميرة عبد العزيز، ولم ينجب منها، فاكتفى بابنته وابنه اللذين أنجبهما من زواجه الأول، وهي اكتفت أيضاً بابنتها ميار التي أنجبتها من زوج سابق. ولكن عاش كافة الأبناء معاً، واجتهدت سميرة في أن تقرب بينهم جميعاً، حتى تعلق بها بالفعل أبناء زوجها. فكانت تصطحب نجله باسم إلى الاستوديوهات حتى حينما كبر. أحب باسم المناخ والأجواء المحيطة بها، ولكن لم يحب التمثيل بقدر ما أحب الإخراج. وبالفعل كبر باسم، وساعدته زوجة أبيه في دخول المعهد العالي للفنون المسرحية، أما ابنته مها فهي تعمل في جامعة كمبريدج.
غضبت زوجة محفوظ عبد الرحمن الأولى من الفنانة سميرة عبد العزيز حينما ظهرت ذات مرة في أحد اللقاءات، وقالت إن لديها ثلاثة أبناء، فعاتبتها قائلة: "لماذا تأخذين حقي في أبنائي". فاعتذرت لها سميرة، ولكن أقسمت لها أنها تحبهم جميعاً بنفس المقدار، خاصة وأن ميار ابنتها ومها ابنة محفوظ مرتبطتان ببعضهما للغاية، ويعتقد الجميع أنهما من أب وأم واحدة.
شاركت سميرة في كافة أعمال زوجها، عدا عمل واحد فقط، وذلك لانشغالها بتصوير عمل تلفزيوني آخر. وكان زوجها يعرض عليها كافة أعماله بعدما يكتبها بداية من الحلقة الأولى، كما كانت سميرة تعرض عليه أعمالها أيضاً، وذات مرة، نصحها بعدم المشاركة في أحد المسلسلات، ولكنها أصرت، ثم عادت وندمت عليه، وتأكدت بأنه كان الأصح.
قالوا عنه
نقاد كثيرون كانوا مهتمين للغاية بمسيرة هذا الرجل. فسبق وقال الناقد المسرحي، سامي خشبة، عن مسرحيات محفوظ عبد الرحمن إن بها همّاً فلسفياً مستمداً من التراث العربي، وإن لديه موهبة فريدة في صياغة الجملة المسرحية، وإن كتابته مشحونة بالتوتر وإنه نجح في المزج بين الحكاية والبناء المسرحي. بينما قال الناقد، مصطفى عبد الغني، عنه إن قيمته مستمدة من معرفته لطبيعة العلاقة بين المسرح والتغيير. وقال فؤاد دوارة عنه إنه أثرى المسرح العربي بمسرحيات ناضجة كلها تتميز بالأصالة والجدة والالتزام القومي والوطني.. مع براعة الحبكة وشاعرية الحوار وسمو الهدف، بينما رأى نبيل بدران أن شخصياته الدرامية آسرة، وأن حواره شديد التكثيف زاخر بعمق الدلالات. فيما قال عنه الكاتب الراحل محمد كامل القليوبي إن عبد الرحمن أكثر مؤلف درامي تناول التاريخ في أعماله خاصة المسلسلات التليفزيونية، ومنها "الكتابة على لحم يحترق" عن مواجهة العرب للحلف الإفرنجي المغولي، و"سليمان الحلبي" عن البطل العربي الذي واجه احتلال الفرنسيين لمصر، ومحمد الفاتح عن البطل الذي قضي نهائياً على الإمبراطورية البيزنطية، و"ليلة سقوط غرناطة" عن زوال دولة الأندلس، و"ليلة مصرع المتنبي" عن الشاعر العربي الكبير، وثلاثيته الخالدة "بوابة الحلواني" عن أهم علامات التاريخ المصري الحديث، أما عن التاريخ المعاصر فقد وضع بصمته بمسلسل "أم كلثوم" عن المطربة العظيمة، و"أهل الهوى" عن الشاعر بيرم التونسي.