تتميّز اللبنانية ريتا حايك (1987)، في أول دور سينمائيّ لها، في "قضية رقم 23" (2017) لزياد دويري، بعفوية الحركة والتعبير والنطق، معتمدة ـ غالباً ـ على ملامح الوجه والجسد في بوحٍ يُضيف ـ بصمتٍ أو بكلمات قليلة ـ مدى أوسع لحراك الشخصية الواقعة في مآزق جمّة؛ بالإضافة إلى خفّة روح تعكس عمقاً في نقل انفعال من داخل الذات إلى المحيط بها.
زوجة قواتيّ مسيحيّ لبنانيّ غاضب، لعجزه عن التصالح مع نفسه وتاريخه وذاكرة حرب منتهية بسلم هشّ وناقص؛ وأم حامل بابنة تشارك والديها ـ قبل ولادتها ـ مصائب ومواجع وتحدّيات؛ وامرأة تُراقب فتحاول التنبيه إلى منزلقٍ أو فخّ أو هاوية؛ وسيدة تساعد زوجها في عملٍ يتطلّب طاقة بدنية ونفسية متينة؛ وجارة تُرحِّب بها سيدات لن تظهرن أمام الكاميرا، لانشغالها هي بحكاياتٍ تبدو كأنها تعزلها عنهنّ: هذه صُور عديدة لشخصية سينمائية واحدة، تؤدّيها ريتا حايك بحيوية وعفوية وبساطة، ترتكز كلّها على حِرَفية، تمكِّنها من التحرّر من تقنيات المهنة، وتدفعها ـ في الوقت نفسه ـ إلى اختبار تمارين مختلفة لجعل الشخصية أصدق، وأكثر واقعية، وأجمل حضوراً.
والتمارين، المنصهرة في أداء يوازن بين صُور عديدة (هي انعكاسٌ لمسؤوليات ومواقع إنسانية واجتماعية وحياتية)، تبدأ بمثولٍ مرن أمام كاميرا تُتقن التحاور معها من دون عناء أو اجتهاد. كأن التواطؤ الخفي بين الممثلة والكاميرا مزمن وقديم، فتنكشف الممثلة أمام الكاميرا لتستقيم المحاورة المطلوبة بين الممثلة والشخصية، وبين الممثلة والمخرج، وبين الممثلة ومن يُحيط بها من أناسٍ، يخرجون من صميم اللحظة واضطراباتها، فيرسمون معاً ملامح بيئةٍ تخشى اعترافاً بخطأ، وتأبى مواجهة الذات، وتنعزل ضد كلّ عودة ممكنة إلى ذاكرة مشبعة بالألم والخوف والخراب؛ والعودة تتيح خروجاً حقيقيّاً من أحوال تلك الذاكرة إلى الذات نفسها.
والشخصية تدلّ على منافذ ممكنة لخلاص مطلوب، بفضل ممثلةٍ تذهب بأحوالها إلى أقصى عفوية ممكنة، لتمنح الشخصية انفعالاتٍ أدائية مفتوحة على ليونة تمثيل، وسلاسة تعبير، وجمالية قول وحركة، وصدق أحاسيس متضاربة أو متكاملة.
تُوازن ريتا حايك، في شخصية شيرين زوجة القواتيّ الغاضب (عادل كرم)، بين أولويات عديدة، مؤكّدة أهمية التساوي بين كلامٍ وتعبير صامت؛ وبين انفعالٍ ونظرة أعمق من كلّ تعليق أو قول؛ وبين براعة الانتباه إلى صوابيةٍ مفقودة، وكيفية تثبيت الصوابية تلك في مواجهة رفض شرس لها. وهي، بهذا، تنفرد في تحمّل أعباءٍ أكثر، فتنتقل من زوجةٍ تنبِّه إلى منافذ خلاصٍ لزوجٍ متعنّت في انغلاقه، إلى امرأة تسعى إلى ربط مفاتيح جمّة، كي يلتئم جرحٌ، أو كي تُصبح مصالحة الذات اغتسالاً أكبر، يقود صاحبه إلى مصالحة مع ذاكرة وماضٍ وراهنٍ.
بغليانٍ دراميّ منبثقٍ من أوجاعٍ منفلشةٍ في جسد امرأة، كما في روحها وعلاقاتها وعيشها، تمارس ريتا حايك عيشاً أمام الكاميرا، نافضة عن نفسها فعل التمثيل، لامتلاكها بهاء صدق ونقاء عفوية ومتانة حِرفية.